لماذا لا تعطي لبنان، وهي أصغر دولة عربية كمّاً وأكبرها كيفاً هذه الأيام، نموذجاً أو درساً لأكبر دولة عربية كمّاً وأصغرهاً كيفاً، من خلال الأزمة الأخيرة؟ إنه درس من الموالاة والمعارضة، الدولة والمقاومة... في لبنان، إلى الحكومة والمعارضة، الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة... في مصر. فقد أخطأت الحكومة اللبنانية بإصدارها القراريْن اللذين كانا وراء الأزمة الحالية. واشتعل فتيل الأزمة. ونزلت قوى المعارضة إلى الشارع، واستولت على بيروت. وانسحبت قوى الموالاة. وسلمت مقارها وأسلحتها إلى الجيش خوفاً من الاصطدام بقوى المعارضة. لم يكن هناك مفر، حتى لا تشتعل الحرب الأهلية من جديد، إلا تراجع الحكومة عن القراريْن، ومطالبة الجيش لها بذلك أيضاً. فخسرت الموالاة وكسبت المعارضة. فلماذا لا تتعلم مصر من ذلك؟ فكم من القرارات أخذها الحزب الحاكم في مصر، وآخرها رفع أسعار الوقود بعد غلاء أسعار المواد الغذائية الرئيسية؟ وصدرت قبلها قرارات رفع أسعار الحديد والإسمنت. وقبلها صدر قرار إحالة رؤساء تحرير أربع صحف معارضة إلى المحاكم العسكرية بتهمة النيل من الرئاسة. وقبلها بعدة سنوات، مد إسرائيل بالغاز الطبيعي، وبأسعار "مدعومة"، ورفع الدعم عن المستهلك المصري. وقبل ذلك كله مسايرة حرب الخليج عام 1991، وما كان أسهل من عقد حوارات عربية في القاهرة بين الخصمين المتنازعين، لحل قضية الحدود بين البلدين الشقيقين، بدلاً من غزو العراق للكويت ثم غزو أميركا للعراق، والسماح للبوارج الحربية الأميركية بالمرور عبر قناة السويس وضرب العراق بالصواريخ من مياه البحر الأحمر. ومنذ انتفاضة الأقصى، ومصر لا تلقي بثقلها لإيقاف نزيف الدم في فلسطين، ولإنهاء حصار غزة، ولوقف العدوان اليومي عليها. ومنذ الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003 تغيب مصر عن الساحة، ولا تصبح عاملاً مؤثراً في السياسة العراقية. رغم كل هذه الأخطاء في التوجه الاستراتيجي، لم تتحرك المعارضة، ولم تنزل إلى الشارع، ولم تفرض سياساتها الوطنية المستقلة على الحكومة. لذلك لم تتراجع الحكومة عن قراراتها. بل مازالت مستمرة. وأقصى أمانيها بالنسبة لفلسطين تحقيق المصالحة الوطنية بين "فتح" و"حماس"، أو السعي إلى التهدئة بين "حماس" و"إسرائيل"، وعقد هدنة طويلة الأمد بينهما أو تدريب الشرطة الفلسطينية لمساعدة السلطة الوطنية الفلسطينية للحفاظ على الأمن الداخلي وليس لحماية الضفة والقطاع والقدس من العدوان الإسرائيلي. تغيب مصر في الجنوب، في السودان. وأقصى أثرها هو إرسال قوات مصرية مع القوات الأفريقية والدولية إلى دارفور لحفظ الأمن والسلام دون الإلقاء بثقلها في السودان ودفع الحوار بين الفرقاء حفاظاً على وحدة السودان والأمن القومي لمصر في حوض وادي النيل. وتترك الدماء تسيل في الصومال بين الفريقين المتنازعين، الحكومة والمعارضة. قد يُقال إن في هذا تحميلاً لمصر أكثر مما تتحمل، ومطالبتها بحمل أوزار العرب جميعاً، وهو ما يفوق طاقتها، ويبدد إمكاناتها على الساحة الخارجية. والساحة الداخلية أولى بإعادة أبنيتها التحتية، الكهرباء والمياه والصرف الصحي وشبكة الطرق الأرضية والسكك الحديدية وإنارة القرى وإعادة بناء أربعة آلاف قرية، مقارنة بدول الخليج الغنية والتي تفوق إمكانياتها المالية إمكانيات مصر. وهذا قصر نظر. فأمن مصر القومي خارج حدودها، لأن مصر، كما تدعي إسرائيل حالياً، دولة بلا حدود. حدودها الغرب في ليبيا، وفي الشرق في الحجاز، وفي الشمال الشام، وفي الجنوب السودان. وهذا هو موضع مصر الجغرافي والسياسي والتاريخي والحضاري. تتحمله لذاتها أولاً قبل أن تتحمله لغيرها. وكما يأخذ الحزب الحاكم الدرس من أخطاء الحكومة والموالاة في لبنان، كذلك تستطيع المعارضة المصرية أن تأخذ نفس الدرس من قوى المعارضة. فالمعارضة النخبوية، معارضة أحزاب المعارضة الرسمية، "التجمع" و"الناصري" و"الوفد"... تستطيع أن تنزل إلى الشارع بجماهيرها متضامنة مع منظمات المجتمع المدني، لتجبر الحزب الحاكم على التراجع عن قراراته الخاطئة على مدى أكثر من ربع قرن، كما فعلت قوى المعارضة في لبنان. وبدلاً من أن تعاني المعارضة الرسمية من نخبويتها وضعفها ولا جماهيريتها، وتوزيع صحفها المحدود، ومظاهراتها في أصغر الميادين، ونشاطها داخل مقارها وسط المدينة... تستطيع أن تخرج إلى الشارع في احتجاج يجبر الحزب الحاكم على التراجع، وتقف أمامه قوات الشرطة وجنود الأمن المركزي عاجزين عن مجابهة الجماهير كما عجزت القوات البريطانية في الهند عن مواجهة الملايين في ميادين نيودلهي. تستطيع المعارضة المصرية الشعبية أن تكون بؤرة لتجميع المعارضة السلبية من أصحاب الحديث النفسي والمونولوج الداخلي والتعبير بالكتابة على المركبات العامة وحوائط المباني والآثار وفي الرسائل إلى الإمام الشافعي والسيدة تيريزا وقبور القديسين والأولياء... المعارضة "المستحية"، معارضة الطبقة المتوسطة التي تعارض بالقلب دون اللسان. تستطيع المعارضة المصرية أن تساند المعارضة الجديدة التي تجاوزتها، وتمد نفسها بدماء جديدة، بدم الطبقة العاملة الفائر، انتظاراً لفورة دماء الفلاحين في ريف مصر. درس من لبنان لمصر، يجب أن يتم الحوار بين الحكومة والمعارضة على أرض مصر دون الذهاب إلى قطر أو عمان، فأهرام مصر لا تتحرك، وإن تحرك توت عنخ آمون الذهبي ولف عواصم العالم، بل يأتيها الناس... حول حكومة وحدة وطنية، وانتخابات حرة، ومجالس دستورية تعددية، وبرنامج وطني للإنقاذ يناقشه الناس، وتتبادل حوله الآراء في الصحافة الحرة. فعلى مصر أن توحد العرب، وتتجاوز قسمتهم إلى محوري "الاعتدال" و"التطرف". وقد قامت الثورة المصرية منذ بدايتها بمقاومة الأحلاف، حلف بغداد عام 1954، والحلف الإسلامي عام 1965. وعلى مصر اليوم أن تعود إلى مسارها الطبيعي، فتقود حركة التحرر الوطني العربي ضد الغزو الاستعماري الجديد، والتوسع الاستيطاني الصهيوني في الأراضي العربية، ولم حبات العِقد المنفرط. ولتعد الدولة الكبرى، كمّاً وكيفاً، كي تملأ مركزها، ولتقوم بدورها كبؤرة لدوائر ثلاث: أفريقيا، والوطن العربي، والعالم الإسلامي، كما حددها عبدالناصر في "فلسفة الثورة". درس أخير من لبنان، لا تناقض بين الموالاة والمعارضة، بين الدولة والمقاومة، بشرط أن تكون الدولة وطنية مستقلة وليست قاهرة للداخل وتابعة للخارج، وأن توجّه المعارضة "صواريخها" للعدو الخارجي، وأن تكون مستقلة في قرارها لصالح الوطن. والجيش الوطني هو الحكم بين السلطات. هو جيش الإنقاذ الوطني في حالة الخطر والانقسام والحرب الأهلية. فالجيش هو الحارس للدستور. وهو الأمين على المصلحة الوطنية. وهو الجيش الوطني الذي قاد ثوراتها الأخيرة منذ نصف قرن لتحرير الأوطان من الاحتلال الخارجي، والفساد الحزبي. الجيش هو الشعب، ممثلاً لكل تياراته. وهو مؤسسة واحدة، وطنية مستقلة. لا تقسم بل توحد. لا تنحاز بل تحايد. تحمي ولا تهدد. تصون ولا تبدد. تعيش مصر أزمة طاحنة كما عاشتها لبنان. فهل يتعلم الحزب الحاكم في مصر من أخطائه، ويتراجع عنها كما فعلت الموالاة في لبنان؟ وهل تتعلم المعارضة في مصر مما فعلته المعارضة في لبنان؟ وهل يستطيع المجتمع المدني في مصر أن ينقذ البلاد ضد انفجار اجتماعي محتمل؟ هل تستطيع مصر أن تقوم بذلك وتصحح مسارها بنفسها؟