لقد عادت الأيديولوجيا لتصبح شيئاً ذا أهمية مرة ثانية. والتطور الكبير الذي شهدته الأيديولوجيا في السنوات الأخيرة، لم يكن نتاجاً لصعود القوى العظمى فحسب، وإنما أيضاً لصعود أوتوقراطيات عظمى كما هو الحال في روسيا والصين. والفهم الواقعي للمشهد الدولي، لا بد أن يبدأ بفهم الطريقة التي سيؤدي بها هذا التحول غير المتوقع، إلى تحديد شكل عالمنا. كثيرون يعتقدون إن القادة الروس والصينيين عندما توقفوا عن الإيمان بالشيوعية، فإنهم توقفوا في ذات الوقت عن الإيمان بأي شيء آخر، وتحولوا إلى براجماتيين يبحثون عن مصالحهم الذاتية، ومصالح بلدانهم. لكن الحقيقة هي أن قادة روسيا والصين، شأنهم في ذلك شأن أوتوقراطيي الماضي، لديهم مجموعة ثابتة من المبادئ التي تقود مسار سياساتهم المحلية والخارجية. فهم على سبيل المثال يؤمنون بفضائل الحكومات المركزية القوية، ويزدرون ضعف النظام الديمقراطي، ويؤمنون بأن الحكم الصارم في الداخل ضروري حتى يحترمهم الخارج. فالقادة الروس والصينيون ليسوا أوتوقراطيين اسماً بل إنهم في الحقيقة يؤمنون بالأوتوقراطية. لقد نجح هؤلاء القادة في الجمع بين الأوتوقراطية السياسية، وبين الاقتصاد المنفتح. ورأيهم في ذلك أن الشعب المشغول بتكوين الثروات، سيكون حريصاً على عدم الدس بأنفه في السياسة، لأنه يعرف أنه إذا ما فعل ذلك، فإن ذلك الأنف سيُقطع. في الوقت نفسه، فإن الثروات الجديدة المتدفقة، أتاحت للأوتوقراطيين القدرة على التحكم في تدفق المعلومات، وفي احتكار السيطرة على محطات التلفزة، ومراقبة الإنترنت. صحيح أن الحرية الاقتصادية لا بد أن تنتج ليبرالية سياسية في المدى الطويل ولكن ما هو طول هذا المدى"الطويل" في الأساس؟ في الوقت نفسه، نجد أن قوة ومتانة هذه النظم الأوتوقراطية، وقدرتها على البقاء، سوف تساهم في صياغة المنظومة العالمية. فالعالم ليس على وشك الدخول في نضال أيديولوجي جديد من النوع الذي ساد الحرب الباردة، غير أن الشيء المؤكد هو أن الجديد وبدلاً من أن يكون عصراً للقيم المشتركة، والمصالح المتبادلة، فإنه سيكون عصراً للتوترات المتفاقمة، وفي بعض الأحيان سيكون عصراً للمواجهة بين قوى الديمقراطية من جانب وقوى الأوتوقراطية من جانب آخر. واهتمام النظم الأوتوقراطية بحماية أنفسها، والمحافظة على استمرارها، هو الذي يحدد طريقة مقاربتها للسياسة الخارجية. من هنا، فإن الذي يخشاه حاكم أوتوقراطي مثل بوتين من "الناتو" ليس قوته العسكرية، وإنما الديمقراطية التي تعتبر دعامة النظام السياسي لأعضائه. والشيء الذي كان يخشاه "بوتين" من الثورات التي حملت ألواناً مختلفة في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، هو أن تلك الثورات قد حدت من طموحه الإقليمي، وكانت تهدد بالتحول لنموذج يحتذى في روسيا ذاتها. صناع السياسة الأميركيون والأوروبيون يقولون إنهم يريدون من روسيا والصين أن تندمجا في النظام الليبرالي الدولي، ولكنهم يجب ألا يندهشوا عندما يجدون الزعماء الروس والصينيين قلقين من مثل هذا الاندماج. وهنا قد يثار سؤال مؤداه: هل يمكن للأوتوقراطيين أن يندمجوا في النظام الدولي الجديد دون أن يستسلموا لقوى الليبرالية؟ بسبب خوفهم من الإجابة على هذا السؤال فإن الأوتوقراطيين يحاولون - وهذا أمر مفهوم- مقاومة المحاولات الرامية لإدماجهم في النظام الليبرالي الدولي، ويحققون نجاحاً نسبياً في ذلك. إن "الأوتوقراطية" تسجل عودة للساحة، ولكن العقل الليبرالي الحديث في"نهاية التاريخ" يعاني من صعوبة في فهم أسباب ذلك وفي استمرار جاذبية النموذج الأوتوقراطي في العالم المتعولم. وثمة نقطة أخرى مهمة، وهي أن التغيرات في الملامح الإيديولوجية لقوى العالم الأكثر نفوذاً، كان لها دوماً بعض التأثير على الخيارات التي تتم من قبل قادة الدول الأصغر حجماً. فالفاشية كانت هي الموضة المفضلة في أميركا اللاتينية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، لأنها بدت ناجحة آنذاك في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا. كذلك فإن قوى الديمقراطية الصاعدة في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، والتي توجت بانهيار الشيوعية عام 1989 ساهمت في ارتفاع موجة الدمقرطة العالمية. ولكن صعود أوتوقراطيتين قويتين جديدتين قد يؤدي إلى تحويل كفة الميزان مرة ثانية. ووزير خارجية روسيا "سيرجي لافروف" يرحب بعودة المنافسة الإيديولوجية ويقول متباهياً:"لأول مرة منذ سنوات عديدة نرى بيئة تنافسية جديدة في سوق الأفكار يشتد فيها التنافس بين منظومات لقيم مختلفة وأنماط نمو متباينة"، والأنباء الطيبة في هذا المجال من منظور الكريملن هي أن الغرب "قد بدأ يفقد احتكاره لعملية العولمة". كل ذلك يأتي كنتيجة غير مرحب بها للعالم الديمقراطي، الذي اعتقد أن مثل هذه المنافسة قد انتهت بسقوط نظام برلين، لكن الوقت قد حان للاستيقاظ من هذا الحلم. روبرت كاجان زميل رئيسي في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"