عندما يطرح موضوع استجابة مؤسسة التعليم العربية لمطالب العولمة، يتمُّ عادة التركيز على الاستجابة لمتطلبات العولمة العلمية- التكنولوجية أو الأنظمة الاقتصادية المصاحبة، وذلك من قبيل تخريج قوى عاملة قادرة على جمع المعلومات واستعمالها في حلّ المسائل المعقّّّّّّدة أو من قبيل اكتساب تلك القوى خلفية واسعة في الرياضيات والعلوم واللغات الأجنبية، أو من قبيل التعامل الكفء مع تقنيات وأساليب الاتصال كالكمبيوتر والإنترنت. وفي اعتقادي أن هذا تبسيط مخل لموضوع معقَّد. فإضافة لأهمية إعداد قوى عاملة تناسب حاجات اقتصاد السوق العولمي، هناك حاجة أكبر لفهم طبيعة ظاهرة العولمة وجوانبها السلبية الكثيرة. لفهم ما أعنيه دعنا ننظر إلى زوايا العولمة المثيرة للقلق في واقع مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تحكم توجهات العولمة كثيراً من نشاطاتها الاقتصادية والثقافية. في الاقتصاد هناك المنافسة الشرَّسة بين الشركات العابرة للقارات التي باسم المنافسة تساهم في إفساد ضمائر وذمم العام والخاص. هناك عقلية الرِّبح السريع التي سخَّرت ثروات البترول الهائلة لمضاربات عبثية في العقار والذي تجاوزت أسعاره نظيرتها في العواصم العالمية الكبرى، متخطياً القدرة الشرائية لغالبية المواطنين. كما تم تسخير ثروات البترول أيضاً لمضاربات في الأسهم ترفعها إلى أعلى القمم دون سبب، وتهبط بها إلى الحضيض دون مبرر أيضاً. وهناك الاستهلاك المادي النَّهم الذي تشحذه ماكينة إعلانية هائلة تملأ الشوارع والصحف وشاشات التلفزيون، بل وحتى الصَّحاري، وذلك لخلق حاجات استهلاكية زائدة. هناك مدن الثراء الفاحش المحاطة بحراسة تكنولوجية بالغة التطور، وذلك من أجل القادمين الزاحفين عبر البحار والمحيطات لإشباع كل متعة وكل رغبة، هذا بينما تعيش البشرية المهمَشة في مجمعات وشوارع مزدحمة وفي بيئة ملوَّثة. في هكذا اقتصاد يزداد الأغنياء غنى (الغنى الفاحش) ويزداد الفقراء فقراً (الفقر المدقع). في هكذا اقتصاد تنتقل بلايين الثروة إلى مدن ومؤسسات دول الغرب الغنيَّة لتزيدها نماءً وغنى، بينما تعيش أرض العرب والإسلام القريبة وهي تستجدي الاستثمارات وتدفع الأثمان الباهظة لنيل فتاتها. في السياسة هناك الدول التي تضعف أمام الشركات وتتخلَّّى عن مسؤولياتها الاجتماعية، في التعليم والصحة والإسكان والعمل، وتخصخصها على نطاق واسع سريع لتخلق عالمين متناقضين: عالم الموسرين والمتمتعين بخدمات قطاع خاص متميّز، وعالم المعوزين المكتفين بخدمات قطاع عام يزداد تواضعاً ومحدودية. وهناك عودة الاستعمار بأشكال مختلفة، وهو يفجّر كل يوم صراعات إقليمية تخدم أهدافه الجيواسترتيجية الكبرى، ويستنفد طاقات المنطقة وإمكانيات حاضرها ومستقبلها في صراعات عبثية. وهناك مسيرة الديمقراطية المتعثرة لألف سبب وسبب، حيث كل شيء يدفع بالفرد وبالمجتمع بعيداً عن السياسة. في الثقافة هناك إعلام يقدّم ليل نهار ثقافة مسطّحة، حسيًّة سريعة الإيقاع، تدخل عقل ووجدان ونفس الإنسان بسرعة لتخرج مسرعة، فتبقيه في خواء دائم قابل لاستقبال ثقافة معلَّبة لا تختلف عن الوجبات السريعة المليئة بالبقايا وبالفتات التالف. هكذا يموت الكتاب الجاد والمسرح الملتزم وتنزوي الموسيقى الرفيعة. نحن أمام صورة تهيمن فيها الوسائل على الغايات، وتغيب عنها أسئلة لماذا؟ وإلى أين؟ حيث لا اهتمام إلاً بالحاضر ولا معيار للتقدم إلا صرعات التقنية والاستهلاك، وحيث الذات تذوب في الموضوع، حيث كل شيء يتسلَّع ويتحول الإنسان شيئاَ فشيئاَ إلى آلة! من سيسبر أغوار تلك الصورة الكالحة ويفضحها ويجيّش أطفال وشباب الحاضر لمقاومتها؟ في مجتمعات يهيمن عليها إعلام بليد، وتقمع فيها قوى المجتمع المدني، وتتنازل الأسرة عن مسؤولياتها... لا تبقى إلا مؤسسة التعليم، من الروضة إلى الجامعة، لتحمل المسؤولية الثقيلة. وهكذا يصبح قدر مؤسسة التعليم العربية أن تقوم في آن واحد بثلاث مهام عظام: إعداد الفرد لدخول عصر الحداثة العربية، ولولوج عصر العولمة، ولمقاومة كل خطايا العولمة. من هنا أهمية تواجد المعلم المهني والمثقف، الملتزم والمحارب. د . علي محمد فخرو