كثيرون هم في الغرب الذين كتبوا عن الحاجة، لا لمراجعة نتاج حركة الفكر عندهم فقط، وإنما أيضاً مراجعة التفكير في الفكر نفسه، بمعنى أن يعرف الإنسان المبادئ والإنحيازات والرَّغبات الدَّفينة التي تتحكًّم في تفكيره وتجعله يأخذ هذا القرار بدلاً من ذاك. ذكْر هذه المسألة الفلسفية المعقدة، هو من أجل طرح هذا السؤال: هل نستطيع فهم أمراض الحياة السياسية العربية التي نشاهدها يومياً دون أن نعاود التفكير في ما يتحكم بالفكر السياسي العربي من منطلقات وانحيازات وفرضيات عقلية وعاطفية خفيَّة لم نكشف كنهها بعد؟ دعنا أولاً نستكشف نماذج من المشهد السياسي العربي في هذه اللحظة التي نعيشها. 1- إن نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني هو أحد أهمّ من خطَّط لاحتلال العراق وأفغانستان، وتسبَّب في موت عشرات الآلاف من مواطني البلدين وتشريد الملايين من سكانهما. وفي الوقت نفسه فقد كتب الكثير عن وقوفه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وراء شركات أميركية ساهمت في سرقة ثروات العراق البترولية، وهو سيزور بلداناً عربية وإسلامية خلال الأيام القادمة، وستمتد الأيادي العربية الرسمية لتصافحه بحرارة وتسامح... فما الذي يتحكم في الفكر السياسي لهؤلاء حتى يقدروا على تبرير ممارسة سياسية كهذه؟ 2- هل يستطيع أيٌّ إنسان عادي أن يجلس مع قاتل أبيه أو ابنته أو زوجته أو أي عزيز عليه بعد أسبوع من دفنهم وذرف دموعه الحارَّة عليهم؟ يبدو أن قادة الشعب الفلسطيني استطاعوا بعد أسبوع من دفن مئات الموتى في غزَّة، من الأطفال والنساء وكبار السن، أن يقرّروا العودة للجلوس مع القتلة الصهاينة ويرضوا بأن تنقلب المأساة الفلسطينية إلى كوميديا أمام الأصدقاء والأعداء على السَّواء. فما هي الرغبات الدَّفينة في عمق أعماق الفكر السياسي الفلسطيني (الرسمي) الذي يستطيع التعايش مع تناقض المأساة الموجعة والكوميديا المضحكة في آن واحد؟ 3- في بلد عربي كان أرض البصل والثوم، كرمز لخيره العميم، يموت الناس في مشاحنات وتدافع مهين للحصول على أرغفة خبز تقيهم وأولادهم مرارة الجوع. ومع ذلك فالبرلمان والحكومة والحزب الحاكم... وكل الرؤوس السياسية، تبقى حيث هي فوق جسد الوطن الجائع السقيم. وإذ أنه ما بعد الجوع من كفر، فما الذي يجعل قيادة ما قادرة على إنتاج فكر سياسي يعيش جنباً إلى جنب مع ضمير ملوث إلى ذلك الحد؟ نحن أمام ثلاثة أمثلة من المواقف الفكرية السياسية التي لا يمكن تفسيرها بالكلمات الإعلامية المستعملة يومياً؛ مثل الانتهازية أو البلادة أو حبّ الكراسي! إن الذي ينتج مثل ذلك الفكر السياسي المريض لابدّ أن يكون أعمق وأكثر خطراً من تلك التفسيرات كلها. ذلك أن أي مقارنة بين ما يحدث عندنا وعند الآخرين، ستكشف ما نعني. فالياباني يحكمه في أغلب الأحوال الخوف من العار وضياع الشرف، عندما يفشل في مهمة مجتمعية، فيفضل الانتحار على العيش مع العار. والغربي تحكمه في أغلب الأحوال مشاعر أهمية تحمل المسؤوليَّة بأمانة ونجاح، فيفضّل الاستقالة على أن يفشل في إنجاز المسؤوليات المناطة به... ومن الممكن ذكر أمثلة أخرى. نعود لسؤالنا الأساسي؛ إذا كان الفشل في حمل المسؤولية لا يؤدّي إلى تركها ليحملها الآخرون، والتسبب في موت الأبرياء جوعاً أو قتلاً، لا يؤدِّي إلى الشعور بالعار ومغادرة مسرح الجريمة... إذا كانت مشاعر كحمل المسؤولية أو الخجل من العار، لا تتحكَّم في توجيه الفكر السياسي العربي الرسمي، فما هي المشاعر أو الإنحيازات أو الفرضيات التي توجهه؟ سؤال نطرحه على الآخرين، وعلى أنفسنا، فجوابه مهمّ للغاية.