في الرابع عشر من فبراير عام 1945، التقى الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، بالعاهل السعودي الراحل الملك عبدالعزيز بن سعود، على متن السفينة الحربية الأميركية "كوينسي" الراسية حينها في مياه البحيرات المرة الكبرى الواقعة على امتداد قناة السويس. وكان روزفلت عائداً إلى بلاده متوجهاً إليها من يالطا، حيث فرغ هناك بمشاركة كل من جوزيف ستالين ووينستون تشرشل من رسم خطوط وملامح عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تكن تلك الاتفاقية التي توصل إليها روزفلت والعاهل السعودي أقل أهمية. فإلى جانب كونها تتعلق بتوثيق علاقات الصداقة الأميركية- السعودية وتأمين الحصول على الإمدادات النفطية، استمدت تلك الاتفاقية أهميتها من ناحية إرسائها لأسس استقرار منطقة الخليج العربي، التي لم تعصف الاضطرابات المتواترة التي شهدتها، بأهميتها طوال الثلاثة وستين عاماً الماضية. وقد صمدت "اتفاقية كوينسي" أمام ثلاث حروب عربية- إسرائيلية واسعة النطاق، إلى جانب استمرار النزاعات الأضيق نطاقاً بين الجانبين. وخلال المدة نفسها واصلت المملكة العربية السعودية أداء دور مسؤول ومعتدل داخل منظمة "أوبك"، فضلاً عن مساهمتها في استقرار أسعار النفط وتقدم النماء العالمي. وفي ذلك الوقت لم يكن ثمة وجود لبدائل عملية لمصادر الطاقة الأحفورية في المستقبل القريب المنظور. وعليه فقد كان استقرار منطقة الخليج، وبالتالي تأمين تدفقاتها النفطية، أمراً بالغ الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. واليوم فقد استمرت المواجهة العسكرية الأميركية مع حركة التمرد في العراق لتكمل عامها الخامس بحلول صيف العام الحالي. وعلى رغم صحة قرار الإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين، إلا أن أخطاء الحرب جاءت تالية للغزو، ومعها جاءت الضريبة باهظة للغاية. وهذا ما جعل من العراق قضية رئيسية في حملة الانتخابات الرئاسية الحالية الجارية في أميركا. ولا يزال على الأميركيين التقرير بشأن استمرار بقائهم في العراق أو انسحابهم منه. غير أن الافتراض الوحيد العام والمتفق عليه تقريباً، هو مسألة توقيت وكيفية انسحاب هذه القوات في نهاية الأمر. فمما لاشك فيه أن تكلفة الانسحاب من عراق مضطرب وأبعد ما يكون عن الاستقرار، ستكون باهظة جداً. أقول هذا وقد التقيتُ بعدد من قادة دول المنطقة الذين أعربوا لي عن قلقهم ومخاوفهم من أن يؤدي انسحاب أميركي متعجل من العراق، إلى إلحاق ضرر بالغ بأمنهم الداخلي والإقليمي. ويقيناً فإن أي انسحاب أميركي متعجل من هناك، سيحمل قادة الكثير من الدول، على استنتاج عدم قدرة أميركا على احتمال مصرع ما يقارب الـ4000 جندي من جنودها، إلى جانب عجز الحكومة الأميركية عن استقطاب الدعم الشعبي اللازم لهذه الحرب الاستنزافية الممتدة، بكل ما تستتبعه معها من معاناة وآلام لابد أن يتحملهما الشعب الأميركي بالضرورة. وتظل هذه المعاناة والآلام قائمة على رغم تطبيق استراتيجية زيادة عدد القوات بنحو 30 ألف جندي، التي طبقها الجنرال ديفيد بترايوس وأثمرت نتائج لا بأس بها في تحسين الوضع الأمني في العراق. ومهما تكن سياسات المرشحين الرئاسيين في الحملة الانتخابية الرئاسية الجارية الآن في الولايات المتحدة إزاء العراق، فإنه ليس في مقدوري أن أتصور مطلقاً أن يدعو أحدهم إلى مغادرة العراق دون أدنى اعتبارات أو ترتيبات، ما يلحق الضرر بصورة أميركا ونفوذها الدوليين، إضافة إلى المخاطرة بالضمانات الأمنية الأميركية نفسها. ومما يزيد من هذا القلق، أن أي انسحاب متعجل وغير مسؤول من العراق، سيترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام تمدد نفوذ إيران وهيمنتها على منطقة الخليج العربي بأسرها. ذلك أن إيران دولة شيعية، وثمة أغلبية شيعية متفاعلة معها في العراق، إلى جانب حقيقة وجود أقليات شيعية أخرى في كافة دول الشرق الأوسط تقريباً. ومن المعلوم أن النزاعات المذهبية بين المسلمين السُّنة والشيعة تعود إلى قرون بعيدة، منذ فجر الإسلام. ومع غياب قوة موازية لإيران في المنطقة، فإن من الطبيعي أن يميل توازن القوى لصالح الطائفة الشيعية، ما يعني إحداث تحول جذري في السياسات الداخلية والخارجية الإقليمية للمنطقة. وفيما لو حدث هذا، فسيصعب عملياً التوصل إلى تسوية سلمية دبلوماسية للأزمة النووية الإيرانية، ما يعني تفاقمها ومضيّها نحو الكارثة في لحظة ما. يذكر أن سنغافورة دعمت جهود الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق، ولا تزال تواصل دعمها هذا متمثلاً في توفير سفن الدعم البرمائي في منطقة الخليج، وكذلك طائرات النقل وناقلات إعادة التزود بالوقود، في إطار مساندتها لجهود القوات الأميركية. وإلى ذلك تساعد سنغافورة في جهود إعادة البناء الجارية في أفغانستان، إيماناً منها بحجم المخاطر الأمنية الدولية التي ينطوي عليها الإرهاب. واعتماداً على القناعة نفسها، فإنه ليس للولايات المتحدة أن تواصل بقاءها منفردة في العراق، وهي في أشد ما تكون الحاجة إلى حلفاء لها هناك. ولكي يتحقق لها هذا، فهي بحاجة ماسة إلى المزيد من الروح الجماعية، التي تتطلب بدورها الشفافية والوضوح التامين، فضلاً عن التقدير الدقيق للمخاطر الاستراتيجية التي يواجهها المجتمع الدولي كله. ويقيناً فإن للحوار القومي العام الدائر في أميركا حول العراق، تأثيراته الكبيرة على الرأي العام العالمي، ومن ثم تأثيراته اللاحقة على بقاء واستدامة أي تحالف دولي متعدد الجنسيات في العراق. لي كوان يو ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزير موجّه حالياً ورئيس وزراء سنغافورة سابقاً 1959- 1990 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"