هناك قول مأثور للقدّيس جوست مؤدَّاه أن كل الفنون تنتج بشراً تزهو بهم الدنيا إلاً فنَّ السياسة فإنه ينتج بشراً في شكل وحوش تمقتهم الإنسانية. لا يصدق هذا القول على أحد أكثر من صدقه على السًّاسة الصهاينة في فلسطين المحتلَّة. فعبر أسبوع جنائزي، وهم يروّعون الحياة في غَّزة، اثبت السَّاسة الصهاينة كم نجحت مدرسة سياسة الاستعمار والسَّلب والتخويف والغرائز الهمجيَّة... في ترويضهم ككائنات اكتسبت بامتياز كل صفات الوحوش. وجه الشَّبه أنه عندما يطارد الوحش فريسته فإنه لا يرى إلاَّ إياها. وفي تركيز بصره وكل حواسه عليها، يسير نحوها غير عابئ بالأشجار التي يسقطها من حوله ومرابع الورود التي تهرسها أقدامه وصغار الكائنات التي تداس فتموت! إن غريزة وشهوة اللَّغِّ في الدم، تعمي بصر الوحش وبصيرته. وهكذا السَّاسة الصهاينة، فقد طاردوا فريستهم في غزًّة بأسلوب الغرائز والشهوات البدائية. لم يستطيعوا إبعاد بصرهم وحقدهم عن المقاومة الفلسطينية الفريسة، فكان أن دمِّرت آلتهم العسكرية الجهنمية البيوت المسالمة الآمنة، وشجَت رؤوس الأطفال الرضَّع النائمين في أسرَّتهم والأطفال السَّائرين الضَّاحكين إلى مدارسهم، وأحرقت السَّاكن والمتحرك في النهار والليل، وانقادت لكل المشاعر الشيطانية الخبيثة. لكن ماذا عن فنّ السياسة في بلاد العرب؟ هنا أنتج هذا الفن نوعاً آخر من البشر الذين يذكِّرون الإنسان بما ردَّده الشاعر الإنجليزي شيلي: "لقد كان جباناً أمام القوي، وكان طاغية أمام الضعيف". والجبن كما يخبرنا التاريخ أنواع، وأسوأ أنواعه هو الجبن المعنوي الذي يموت صاحبه مرَّات ومرَّات قبل أن يصل أجله، كما أخبرنا شكسبير. وإلاَ، فما الذي يبرر عجز أمَّة تجلس على ثلثي احتياطي الطاقة التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي، وتملك تريليونات الدولارات في الأسواق العولمية، وتعتبر من أكبر مشغِّلي مصانع الأسلحة في الغرب، وتملك رصيداً معنوياً هائلاً في عالم يضم مليار مسلم... عجزها عن أن تجنِب غزَّة، أقول فقط تجنِّبها لا أن تحررها، السقوط تحت جرائم الحصار والتجويع والقتل اليومي لزهرات شبابها وأطفالها... حتى جاءت أخيراً الاستباحة الهمجية من قبل الغزاة للفريسة المنهكة المستفرد بها؟ بل كيف نبرّر عدم سماعنا عن تهديد، مجرّد تهديد، بغلق سفارة أو استدعاء سفير أو إنهاء علاقة تجارية؟ هذا العجز المأساوي يستدعي تذكير قادة العرب بما قاله الآخرون لقادتهم. فالشاعر وليام مودي صرخ ضد من يتنطَّعون لمهمَّات القيادة في بلده: "أنت يا من تقود! خذ الحذر، فنحن قد نتسامح مع عمى البصيرة، لكننا لن نغفر للنفس الخسيسة". غير أن قمة المأساة هي أن الشعب العربي، المعني بأن يغفر أو لا يغفر، يعاقب أو لا يعاقب... قد سمح لنفسه بأن يكون خارج اللعبة السياسية، فكانت النتيجة أن حول وطنه إلى أرض يباب. أمام هذا العجز الرسمي العربي وذاك المنع القسري لقوى المجتمع من دخول حلبة السياسة، يخلو الجو لخرّيجي مدرسة الأصولية الأميركية، من عرب الليبرالية الجديدة، ليتسابقوا في اللَّوم والتقريع للمقاومة الفلسطينية مطالبين إياها بوقف إطلاق صواريخها المتواضعة. وينسى هؤلاء أن تلك الصواريخ لا تزيد عن أن تكون خدشاًَ وتخميشاً بأظافر الضحية لوجه المغتصب الصَّلف، وأن سكون الضحية لم يؤدّ، عبر التاريخ الإنساني كلِّه، إلاَّ إلى ازدياد هيجان غرائز الرابضين فوق جثث ضحاياهم. هؤلاء اللَّوامون يتجاهلون أن الضحية الفلسطينية قد تنازلت منذ سنين لعدوها عن 81% من وطنها، وألقت سلاح المقاومة ودخلت في لعبة المفاوضات العبثية، ووضعت يدها في يد "بروتس" الأميركي... فلم يُجْدِها كل ذلك نفعاً، بل طالبه العدو ومحازبوه بالمزيد. اللوامون العرب، ينطبق عليهم قول سانتانيا: "وحدهم الذين لا يسترجعون في ذاكرتهم تجارب أخطائهم السابقة، يعاودون المرة تلو المَّرة الوقوع في نفس الأخطاء". وهذا ما يريده هؤلاء من الفريسة غزَّة، تماماً كما يريدونه من أختها بغداد!