أتاحت المقاربة السوسيولوجية لمكونات الظاهرة الدينية، إمكانية التمييز بين "دين شعبي" يتمثل في الممارسات والتصورات الدينية الراجعة إلى فئات اجتماعية اعتبرت ممثلة لعامة الشعب ومتأثرة بأوضاعها الاجتماعية والثقافية، وبين "دين عالِم أو "دين رسمي" يتجلى في جملة العقائد والطقوس والشعائر المنظمة والمقننة بواسطة تقاليد معرفية دينية أو من خلال جهاز ديني رسمي. ذلك التمييز المبدئي العام هو الخلفية المنهجية التي تنطلق منها زهية جويرو في كتابها الذي نعرضه هنا، وتعالج فيه "الإسلام الشعبي" كأحد مستويات الإسلام المتعددة. وانطلاقاً من ذلك تصوغ ثلاث فرضيات رئيسة توجه بحثها، الفرضية الأولى هي أن الإسلام شهد منذ مراحل تاريخه الأولى ظهور التمايز بين مستويات مختلفة من التمثلات الدينية، تجلت في طبيعة العقائد وفي أشكال ممارسة الشعائر الدينية عامة، وأن هذه المستويات قد تأثرت بأوضاع المسلمين وأطرهم الثقافية؛ فكانت "عقائد العوام" أو"إسلام العامة"، و"إسلام الخاصة"، من جملة المستويات المذكورة. أما الفرضية الثانية فترى أنه بقدر ما حافظت منظومة العقائد الإسلامية على ثباتها خلال حقب طويلة نسبياً، دون أن يكون ذلك دليلاً على لا تاريخيتها، فإنها سرعان ما اهتزت بفعل التحولات التي بدأت تعصف بالمجتمعات الإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر. بينما تذهب الفرضية الثالثة إلى أن التدين الشعبي مرتبط بـ"المقدس" أكثر من ارتباطه بالدين الذي ما هو إلا بنية ضمن بنى المقدس نفسه. ورغم ذلك، تبدو المؤلفة مدركة لمحاذير التمييز بين ذينك المستويين في الإسلام، الشعبي والعالم، بدليل أن ظاهرة مثل الاعتقاد في كرامات الأولياء وما يتصل بها من طقوس، وهي الظاهرة التي قدمت على الدوام كشكل يكاد يستغرق "الإسلام الشعبي"، لا يمكن كشف دلالاتها وتحديد وظائفها، بمعزل عن الإسلام كمنظومة دينية عالمة. بيد أنه بالتعمق أكثر فأكثر في ذلك المثال تحديداً، تلاحظ المؤلفة مدى التباين في التصورات والمعتقدات بين الإسلام الشعبي والإسلام العالم؛ فالمسلم العامي هو أيضاً يستحضر الله بواسطة الأقوال والطقوس في كل فعل ينوي القيام به وفي كل مطلب يروم تحقيقه، لكنه يضفي على الولي الصالح الذي يؤمن بكراماته، ملامح إلهية. وفي المقابل ينظر "المسلم العالم" إلى هذا المعتقد على أنه "انحراف" أو"بدعة"، أو حتى "شرك بالله". وهنا ترى المؤلفة في خصائص وتكوينات كهذه، معايير تمكننا من ضبط حدود واضحة لما نسميه "الإسلام الشعبي". وعوضاً عن الدراسة الميدانية التي لم يتيسر للمؤلفة إنجازها، تركز على المثال التونسي كما عكسته كتب الطبقات والتراجم والرحلة والمسالك والمناقب، وأيضاً كما حللته الدراسات الاستشراقية والانتروبولوجية الحديثة. وهكذا تخلص إلى أن عدداً لا يستهان به من العناصر العقدية والممارسات الشعائرية ضمن منظومة "الإسلام الشعبي"، كان رائجاً حتى قبل نشوء هذه المنظومة واكتمالها. لكن تلك العناصر ظلت مشتتة ومبثوثة في النسيج العقدي- الذهني وعبر النسيج الاجتماعي، إلى أن مثل الفكر "الولائي" إطاراً استقطبها وأضفى عليها وحدة حولتها إلى منظومة لم تلبث أن استقطبت بدورها أغلب الفئات الاجتماعية. لذلك نجد كتب المناقب حافلة بأخبار الخوارق والكرامات المنسوبة إلى الأولياء، كما هي حافلة بأخبار عوام الناس وهم يرجون وساطة الولي ويستغيثون ببركته طلباً للشفاء من مرض، أو للانتصاف من ظالم، أو لكسر الغلاء وصرف الجراد وإنزال الغيث... وترى المؤلفة أنه رغم مظاهر التقديس المفرط للأولياء، فثمة علامات دالة على ارتباط العقيدة الولائية بالعقيدة الإسلامية كما يقدمها الفقهاء، وأن الاختلاف بين المستويين، العالم والشعبي، لا يكمن إلا في الوظائف التي أسندها كل طرف إلى أولئك "الصلحاء" والتي كانت تختلف باختلاف المواقع الاجتماعية للمؤمنين بها وباختلاف مستوياتهم الذهنية والمعرفية. لذلك اقترنت البيئة الاجتماعية الحضرية بإسلام الفقهاء أو"الإسلام العالم"، أكثر من اقترانها بـ"الإسلام الشعبي". بينما كانت البيئة الريفية محكومة ثقافياً ببنية الثقافة الشعبية الشفوية وبخصائصها، واجتماعياً ببنية النظام القبلي العشائري، لذا كانت مجالاً لانتشار "إسلام شعبي" كانت عقيدة "الصلحاء" تعبيره الأوسع انتشاراً. وبذلك تمكنت الزوايا، كما تمكن أولياؤها، في سائر أنحاء المغرب العربي، من التوفيق بين الحاجات القبلية ومتطلبات الانتماء إلى الأمة الإسلامية، دون أن تتقيد بالشعائر والعقائد الإسلامية الأصلية. وتلك هي الطروحة المركزية للكتاب، أي تأكيد ارتباط الظاهرة الدينية بأطرها الاجتماعية والثقافية، على غرار ما سبق أن أكده انتروبولوجيون أجروا دراسات مقارنة حول الإسلام في المغرب وإندونيسيا، مثل "غيرتر" و"إيمكلمان". وترصد المؤلفة مسار تحول العقائد الشعبية في تونس وعوامله؛ لتوضح أن بنى "الإسلام الشعبي" بدأت تهتز وتتفكك في ظل الاستعمار، بفعل عوامل أهمها السياسة المركزية لدولة الاحتلال، وسياستها الاقتصادية التي أفقدت الزوايا استقلالها المالي، كما عمل الاستعمار أيضاً على تفتيت البناء الاجتماعي القبلي. ومع ظهور الدولة الوطنية، كانت البنية الاجتماعية التقليدية قد أصابتها تصدعات عميقة، بينما أصبح المجتمع الناشئ على أنقاضها إطاراً مناسباً لتقبل الثقافة الحديثة؛ فلم تكتف الدولة بتحييد المؤسسات التعليمية التقليدية، وإنشاء المدارس العصرية كأداة لإعادة تشكيل المجتمع، وإنما أيضاً بدأت تستأثر بسلطة التصرف في الدين. وبذلك انتهى مسار النسيج الطقوسي الذي كان ينتظم الممارسات الدينية الشعبية إلى حالة من التفتت؛ حالة شملت أشكال الطقوس ومرجعياتها الرمزية ودلالاتها ووظائفها... في وقت واحد. لكن مؤشرات جديدة أخذت تظهر منذ أواسط السبعينات، ومازالت مستمرة إلى اليوم، رأى فيها كثير من الدارسين علامة على "عودة المقدس"، وترى فيها زهية جويرو دليلاً على أن التدين الشعبي ذو قدرة عالية على التكيف مع المستجدات والمتغيرات التي تطرأ في الواقع، وعلى اكتساب وظائف جديدة تضمن استمراره، في أشكال مختلفة وعبر تجليات مستجدة! محمد ولد المنى الكتاب: الإسلام الشعبي المؤلفة: زهية جويرو الناشر: دار الطليعة تاريخ النشر: 2007