صوت برلمان كوسوفو على الاستقلال يوم 17 فبراير الجاري، وسارعت عدة دول بالاعتراف باستقلال الإقليم منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فيما عارضت بشدة كل من روسيا والصين وقبلهما بالطبع صربيا والأقلية الصربية في كوسوفو. وأعلن وزير الخارجية الصربي "فوك يريميتش" أن "صربيا لا توافق على الاستقلال, وستتصدى بالأظافر والأسنان سياسياً ودبلوماسياً على كل منبر لهذا القرار غير الشرعي"، وحاولت صربيا وروسيا جعل الأمم المتحدة تُلغي إعلان استقلال كوسوفو، إلا أن جهودهما باءت بالفشل، وصرح الرئيس الصربي "بوريس تاديتش" أمام مجلس الأمن "أن هناك عشرات مثل كوسوفو عبر العالم التي تنتظر أن تصبح عملية الانفصال هذه واقعاً وتؤسس معياراً مقبولاً "، وأضاف "أُحذركم بشدة من خطر تصاعد العديد من النزاعات الموجودة ومن تأجج نزاعات نائمة ومن بروز نزاعات جديدة". وتابع "إذا غضضتم الطرف إزاء هذا العمل غير القانوني، من يضمن لكم ألا تقوم بعض الأجزاء من دولكم بإعلان استقلالها بالطريقة ذاتها؟". ومن ناحية أخرى، أصدر فلاديمير بوتين رئيس روسيا تحذيراً شديداً إلى الغرب قائلاً:"إن سابقة كوسوفو هي سابقة خطيرة في جوهرها، وهي هدم لكامل نظام العلاقات الدولية والتي سادت ليس فقط لعقود بل لقرون. ومن دون شك ستجلب سلسلة كاملة من ردود الفعل غير المتوقعة"، مشيراً إلى أن قرار الدول الغربية بالاعتراف باستقلال الإقليم سوف "يرتد عليهم ليقرع رؤوسهم". يثير الاعتراف الدولي اليوم بكوسوفو مسائل شائكة في القانون الدولي، وعلى صعيد التوازنات والصراعات الدولية وعلى صعيد حقوق الإثنيات والأقليات العرقية حيث تتضارب قواعد دولية كحق تقرير المصير وسيادة الدولة، ويثير مفهوم البلقنة اليوم تساؤلات عدة بين الشرعية الدولية وحقوق الأقليات والتوازنات الدولية، فعلى الدوام كانت كوسوفو مثار خلاف دولي، فتدمير قوة الصرب والتدخل الدولي عام 1999 حتى بغياب تفويض واضح من الأمم المتحدة، بدا مقبولاً دولياً بينما هو بالأساس انتهاك صارخ للقانون الدولي وللنظام العالمي بغض النظر عن الظروف الإنسانية التي عانى منها ألبان كوسوفو آنذاك، فانتهجت الولايات المتحدة وحلف "الناتو" في كوسوفو أسلوباً يؤدي بالضرورة إلى تصعيد المذابح والعنف، يصبح معه التعايش بين الصرب وألبان كوسوفو جنباً إلى جنب في نوع من السلام مستحيلاً. شكل انتهاك القانون الدولي آنذاك نقطة تحول جوهرية في فكر التدخل لأسباب إنسانية كما كان الوضع في كوسوفو، إذ يتألف القانون الدولي من مجموعة أنظمة وقواعد عرفية ملزمة لجميع الدول تشارك فيما بينها الاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع استعمال القوة، ويؤكد على عدم انتهاك سيادة الدول، فيما يتعارض هذا المبدأ ضمنياً مع القواعد، التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والعهود الدولية التي تعطي للأفراد حقوقاً ضد الدول المستبدة فيما اصطلح على تعريف تدخل الولايات المتحدة وحلف "الناتو" في إقليم كوسوفو بالحق في التدخل الإنساني. وشكّل هذا التدخل آنذاك سابقةً، أتاحت للولايات المتحدة تطوير استراتيجيات التدخل لاحقاً سواء داخل أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أو في العراق. وتاريخياً تمتع إقليم كوسوفو بالحكم الذاتي منذ عام 1974 بموجب قرار من جوسف بروز تيتو رئيس الاتحاد اليوغسلافي، حتى ألغى ميلوسيفيتش الحكم الذاتي عام 1999، وكان ألبان كوسوفو قد أجروا في سبتمبر 1991 استفتاءً حول استقلال الإقليم حيث كانت نتيجة التصويت لصالح الاستقلال، وسارع الألبان إلى إجراء انتخابات رئاسية وصل فيها إبراهيم روجوفا إلى سدة الحكم ممهداً الطريق أمام حلم الألبان الكوسوفيين بالاستقلال بطريق التفاوض السلمي وعبر القنوات الدبلوماسية. إلا أن صربيا ردت بعنف على الحلم الكوسوفي بحملات قمع عسكرية، أودت إلى مجازر بشعة، وتدخلت الولايات المتحدة وأوروبا في هذا الصراع لصالح الكوسوفيين الألبان بعد إخفاق جهود الوساطة السلمية والتي كان آخرها مفاوضات "رامبوييه" مطلع عام 1999، التي أجريت بعد قصف استمر 11 أسبوعاً تبعه غزو تم تدمير قوة الصرب وصدر القرار الدولي رقم (1244) الذي يمنح كوسوفو حكماً ذاتياً واسعاً تحت السيادة الصربية، كما يمنح مهمة الأمم المتحدة تفويضاً لإدارة الإقليم بمساعدة الحلف الأطلسي. ولا يشير القرار إلى الوضع المستقبلي لكوسوفو، ومن ثم أصبح الإقليم تحت إدارة دولية. تراقب المجموعات العرقية حول العالم ما يحدث في حالة كوسوفو، وتقيس ردود الأفعال العالمية وتحلل المتغيرات الدولية والإقليمية لتختبر التطورات المتلاحقة رغبة في تحقيق طموحاتها التاريخية، إن سنحت لها الفرصة. فيما تثير تطورات قضية كوسوفو قلقاً مشروعاً لدى دول تحوي أقليات إثنية أو عرقية أو دينية، يمكن أن تخضع لأوضاع مشابهة مستقبلاً، وفي ضوء تزايد النزاعات الأهلية والحركات الانفصالية في العديد من دول العالم، فإن تعميم نموذج كوسوفو من شأنه أن يثير عدم الاستقرار الدولي والتدخل الدولي لتحديد مسارات النزاعات الأهلية، وفي الحقيقة يشكل انتهاكا للقانون الدولي إضافة إلى أن النزاعات الأهلية تعتبر من أصعب النزاعات في التفاوض والتسوية، لاسيما وأن ديناميكيات الصراع الداخلي هي -في حقيقة الأمر- التي تحدد اتجاهات التسوية. بين القانوني والإنساني كانت كوسوفو قضية واحدة بانعكاسات دولية، لكن لا يمكن، ومهما سيقت من مبررات، دعم جهود إضعاف البنية الهشة للقانون الدولي وازدراء القرارات الدولية، فتحدي القانون الدولي في السنوات الماضية وميثاق الأمم المتحدة صار صريحاً إلى أبعد مدى، كما صار يُدافع عن هذا التحدي بتفسيرات تستند إلى القانون الدولي المُحتقر بالأساس. لذلك وتأسيساً على ما سبق، فإن إصدار شهادة ميلاد شرعية لمولود غير شرعي سيشكل سابقة دولية ستترتب عليها انعكاسات لا تحمد عقباها، خاصة أن قرارات الشرعية الدولية كالقرار (1244) يجب ألا تنفرد دول معينة بتفسيرها أو تفعليها أينما ووقتما تشاء.