عراق ما بعد "التغيير"... الصدمة والتصدع والمحنة!
في كتاب جديد يتألف من 14 فصلاً، وما يربو على 400 صفحة من الورق المتوسط، يطل الفريق الدكتور سعد العبيدي، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي، وأستاذ مادتي الصحة النفسية وسيكولوجيا السياسة في عدة جامعات، على "دوامات المحنة"، مقدماً قراءة سياسية نفسية متعمقة، لأربع سنوات من المحن، بتفاصيلها وأحداثها، في "عراق ما بعد التغيير"، أي الحرب الأميركية التي أطاحت نظام صدام حسين وأنهت حقبة كاملة من تاريخ العراق الحديث. لا يعير الكتاب أي اهتمام للمكاسب المتحققة أو التي قد تتحقق، بل يهتم أساساً باستعراض مفردات المحنة ودوامات الكوارث الحاصلة في المجتمع العراقي، محللاً طبيعتها وتأثيراتها، أي الضرر الناتج عن الحرب وفعل التغيير الحاصل بسببها، والمواقف التي تأسست عليه، فضلاً عن عوامله النفسية والاجتماعية. فقد شهد الأمن الاجتماعي العراقي، في مرحلة ما بعد الغزو وسقوط بغداد، أكبر عملية خرق في تاريخه الحديث، هي ما يحاول الكتاب توصيفها وتحليل ماهيتها ومستويات امتدادها في المجتمع، مركّزاً على ظواهر الطائفية، والفساد، والتصدع القيمي، والتناشز المعرفي، والقصور السياسي، والسلوك العدواني.
ومن الناحية المبدئية، فإن المؤلف لا يعارض "التغيير" الذي حدث في العراق عام 2003، بل يرى أنه كان حتمياً بالحسابات الدولية والإقليمية؛ ومن منظور الظروف السياسية والاقتصادية للفترة بين عامي 1990 و2003 داخل العراق نفسه، حيث وجدت أميركا في ذلك الوضع فرصة للتحرك وحشد الحلفاء لتحقيق التغيير باستخدام القوة، فشنت حربها وأطاحت النظام الذي كان قائماً.
ويتوقف المؤلف عند حالة الذهول التي أحدثها سقوط النظام، فالتغيير الذي استغرق 21 يوماً من القتال المتواصل، أذهل العراقيين حين وجدوا أنفسهم بلا قيود كانوا قد تعودوا العمل في ظلها سابقاً. وخلال ثلاثة أشهر تقريباً أمعن كثيرون منهم في استباحة الممتلكات العامة والاستحواذ عليها، وفي عمليات الأخذ بالثأر وتصفية الحسابات السابقة، وعمل القادمون الجدد خاصة على إرساء نفوذهم وتوطيد ركائزه. وبذلك مهد العراقيون عامة لأكبر عملية اضطراب في الأمن والسياسة والقيم الاجتماعية، وحين أفاقوا من الصدمة، وجدوا غياباً كاملاً لأجهزة الضبط والرقابة والحماية، ورأوا أثرياء كانوا بالأمس حفاة، وتفاجئوا بعصابات في كل الأحياء، وبمئات الآلاف من الضباط والجنود العاطلين عن العمل، وبسياسيين عائدين أثروا فجأة من عملية إعادة الإعمار، وبآلاف العرب الذين توافدوا ليبدؤوا عمليات المهارشة... كل ذلك وجده العراقيون بعد الإفاقة من حالة الذهول والصدمة، لينخرط بعضهم في دوامات قوامها التدمير وأساليب الخراب.
وإلى ذلك، يرى الدكتور العبيدي أن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء تنظيمية فادحة في إدارة ما بعد "التغيير"؛ كونها فرضت المحاصصة الطائفية، وكونها لم تتحسب مسبقاً لإيجاد سلطة بديلة بقوة التأثير والضبط نفسها، بل توجهت بعد حلها الجيش والأجهزة الأمنية العراقية، إلى إنشاء أجهزة أخرى بديلة، تكونت أساساً من اللصوص والجناة وغير المؤهلين، لتسند إليهم مهمة بسط الأمن وإعادة الطمأنينة العامة والبت في شكاوى ودعاوى الناس اليومية... أي ما أخفق الأميركيون أنفسهم في تحقيقه، مؤسسين بذلك أخطر بادرة خرق أمني أدت إلى تأجيج الاضطراب.
ويجادل المؤلف في أن إدارة البلاد من قبل المحتل، قبل عام 2004 وبعد تسليم السلطة للعراقيين، جعلت الحكومات المتعاقبة جزءاً من المشكلة وليست طرفاً مؤهلاً لحلها، مما أدخل الأميركيين أيضاً في دوامة الحيرة؛ فهم تارة يشيدون بإنجازات الحكومة وقدراتها، وتارة أخرى يتهمونها بالمشاركة في إثارة العنف! أما النتيجة الفعلية لذلك؛ فكانت تضعضع أجهزة الدولة، وخضوعها لسيطرة الميليشيات والقوى الطائفية المشترِكة في دوامات المحنة.
وفي معرض تحليله لسيكولوجية "التغيير"، يرى المؤلف أن الوجود الأميركي في العراق، كوّن أطرافاً مستفيدة وأخرى متضررة، وأن كل طرف سعى إلى تبرير مواقفه والتأثير في الآخرين من حوله، وكان سلاح الحرب النفسية أداة رئيسية في المعركة، رغم الفروق الهائلة في درجة امتلاكه ونوعية التقنية النفسية ووفرة الاختصاص. ولا يمكن فهم العامل النفسي في النمط الأميركي لإدارة "التغيير" في العراق، دون الرجوع إلى جوانب الفلسفة الأميركية الحالية على مستوى العالم، وهي فلسفة تتمحور حول مفهوم العولمة بمحمولاته السيكولوجية والثقافية. فالأميركيون يعتقدون أنه من واجب بلادهم التي تمتلك 65% من المادة الإعلامية على مستوى العالم، أن تقدم "نموذجاً كونياً للحداثة" يحمل القيم الأميركية، وقد حددوا للحرب أهدافاً؛ منها تحقيق التجانس السياسي (إقامة الديمقراطية)، والتجانس الاجتماعي (حقوق الإنسان)، والتجانس الثقافي (حرية التدفق الإعلامي)... فكان للجانب الثقافي بأبعاده النفسية أسبقية مطلقة (افتتاح معاهد، وإقامة ندوات، وإرسال بعثات، وإيفاد آلاف المستشارين...)، لصياغة عقل ثقافي يتلاءم مع قيم العولمة ومعاييرها، بهدف زيادة معدلات التشابه والتجانس.
بيد أن المؤلف لا يبرئ النظام السابق من المسؤولية عن حالة الفوضى والانهيار والتصدع في المجتمع العراقي، فكثير من سياساته الأمنية والثقافية، ساهمت في تحوير المفاهيم وتعديل النظام القيمي، وأدت إلى تكريس اتجاهات النفعية والابتذال والضبابية... كمؤشر على مقدار التصدع في بنية المجتمع العراقي.
وإذ يتوقف المؤلف بتمعن عند "مسارب المحنة"، متفحصاً يومياتها وتفاصيلها الجزئية، فإنه أيضاً يتعقب شظايا الحدث العراقي خارج دائرته المحلية. فقد تفاعل الشارع العربي سيكولوجياً مع وقائع الحرب على العراق، وتكونت لديه مشاعر عداء نحو دول "التحالف"، وبقي في الذاكرة العربية كمٌ من الانفعالات غير السارة نحو الولايات المتحدة بشكل خاص. وأمام تلك الحالة النفسية المحتقنة، سمحت بعض الحكومات العربية لشعوبها بالتظاهر والاحتجاج والصراخ... لكن كنوع من تنفيس الانفعالات المكبوتة من ناحية، وللإيحاء بوجود هامش ديمقراطي من ناحية ثانية!
محمد ولد المنى
ـــــــــــــــــــ
الكتاب: دوامات المحنة
المؤلف: د. سعد العبيدي
الناشر: الدار العربية للعلوم
تاريخ النشر: 2007