ماذا بعد ولادة دولة كوسوفو؟
يوم الأحد الماضي 17 فبراير 2008، وُلدت دولة جديدة من رحم الاتحاد اليوغسلافي السابق. هذه الدولة هي كوسوفو. وبولادتها يزداد عدد الدول الأوروبية بواحدة. كما يزداد عدد الدول الإسلامية بواحدة أيضاً. ذلك أن كوسوفو التي تقع في وسط أوروبا، تضم مواطنين من أصول ألبانية تبلغ نسبتهم 95 في المئة (مليونان) وجميعهم من المسلمين. أما الخمسة في المئة الباقية (40 ألفاً) فهم من الصرب الأرثوذكس. ولم يتقبل الصرب ولادة هذه الدولة الجديدة كما تقبلوا ولادة الدول العديدة الأخرى التي قامت على أنقاض يوغسلافيا السابقة، ذلك أن لكوسوفو موقعاً مميزاً في التاريخ الوطني الصربي. ففي عام 1463 اعتقل السلطان العثماني محمد الثاني الملك الصربي تورماشيفيك وأعدمه. وحوَّل البوسنة إلى مقاطعة تركية عاصمتها الإدارية كرافنيك -ثم سراييفو- وفي عام 1483 احتلّ الأتراك الهرسك أيضاً. وخلال الاحتلال التركي تعرّف السكان على الإسلام واعتنقوا الدين الجديد. وتولى عدد منهم مناصب مهمة في الدولة العثمانية من بينهم الوزير محمد سوكولي. ورغم أن الصرب خسروا كل المعارك العسكرية التي خاضوها ضد العثمانيين، إلا أنهم انتصروا في معركة واحدة كان مسرحها كوسوفو، ولذلك يعتبرونها جزءاً، بل رمزاً لعنفوانهم القومي.
وخلال عهد الدولة اليوغسلافية حدثت سلسلة من الاصطدامات الدينية- العرقية بين المسلمين والصرب من جهة، وبين الصرب والكروات من جهة ثانية. ولعل أخطر تلك الاصطدامات وقع في إقليم كوسوفو. ذلك أنه رغم التمايز العرقي بين المسلمين في كوسوفو والمسلمين في البوسنة والهرسك، فإن الدين يوحدهم في وجه عمليات الإبادة التي تعرّضوا لها. ويلاحظ وزير الخارجية الأميركية الأسبق الدكتور هنري كيسنجر "أن كوسوفو هي المنطقة الأكثر خطراً، إذ إن صربيا تعتبرها أصل تاريخها القومي والتراثي على الرغم من أن معظم سكانها اليوم هم من الألبان المسلمين".
وفي الأساس كانت يوغسلافيا تشكل مزيجاً من بقايا الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية اللتين انهارتا وتمّت تصفيتهما في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان هذا المزيج يتألف من ست جمهوريات ومن منطقتين تتمتعان بالحكم الذاتي. كما كان يتألف من ست لغات، ومن اثنين من أشكال الحروف الأبجدية، وثلاثة أديان. وكان الرئيس جوزيف تيتو رئيس الاتحاد اليوغسلافي الشهير قد أدخل نظام الإدارة الذاتية ضمن لامركزية واسعة النطاق بعد ابتعاده عن نظام المركزية السوفييتية في عام 1948، وكان الدستور التيتوي ينص على قيام قيادة جماعية بعد وفاته، وعلى منح الجمهوريات الست والمنطقتين استقلالاً ذاتياً واسع النطاق يمكّنها من معارضة قرارات الحكومة المركزية، بل ويمكّنها حتى من الامتناع عن تنفيذ أي سياسة اقتصادية تتعارض مع مصالحها. وهكذا أصبحت للجمهورية في الدولة اليوغسلافية (السابقة) سياسات اقتصادية. مما أدى إلى التدهور الاقتصادي العام الذي فجر الوضع السياسي وإلى انفراط عقد الدولة الاتحادية ونشوب الحروب الأهلية وقيام سلسلة الدول الجديدة، وكانت آخرها كوسوفو.
كانت مقاطعة كوسوفو تعاني في ظل الاتحاد اليوغسلافي من بطالة تصل إلى 26 في المئة، بينما كان الحد الأقصى من نسبة البطالة في بقية المناطق اليوغسلافية الأخرى لا يتجاوز 14 في المئة. وكان الصرب يلقون باللائمة على سكان كوسوفو أنفسهم بحجة أنهم يتوالدون بنسبة عالية جداً، بحيث إن كل مشاريع التنمية تعجز عن اللحاق بزيادة عدد السكان. غير أن سكان المقاطعة يعزون التأخر الذي عانوا منه إلى الإهمال المتعمد لمجرد أنهم مسلمون ومن أصول ألبانية. وقد وقعت سلسلة من الاشتباكات العنصرية بين الصرب والألبان في ذلك الوقت، مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من الصرب فيما تجمع الباقون الذين يقل عددهم على خمسة في المئة في أحياء منعزلة. وتدخّل الجيش اليوغسلافي بقوة عدة مرات منذ عام 1981 لوقف هذه الاشتباكات العنصرية وبشكل منحاز تماماً إلى جانب الصرب مما أدى إلى رد فعل لدى العسكريين الألبان في الجيش.
وكان من نتيجة ذلك أن وقعت 216 حادثة تمرد داخل الجيش اعتُقل بسببها 1435 عسكرياً من أصل ألباني وأحيلوا إلى المحاكم العسكرية، وأُعدم بعضهم بتهمة التمرد. لقد اتُهم المسلمون في كوسوفو بأنهم يعملون من أجل ألبانيا الكبرى وأنهم يتطلعون إلى الانضمام إلى ألبانيا التي تتاخم كوسوفو من الجنوب الغربي. غير أن قياداتهم كانت تؤكد دائماً أن المشكلة ليست في الوحدة مع ألبانيا وإنما في رفع كابوس وهيمنة الصرب عنهم. فالصرب كانوا يشكلون أكبر أقلية في يوغسلافيا الاتحادية. وبالتالي كانوا يسيطرون على قطاعي الاقتصاد والإعلام، وكذلك على سلطات الحكم. وكانت الصحف اليوغسلافية التي تصدر في بلغراد تحمل بشدة على الألبان وتتهمهم بالعنصرية والتعصُّب الديني. فالصدامات العنصرية وقعت حتى داخل الجيش. ففي صيف 1988 مثلاً قتل جندي ألباني أربعة جنود صرب وأصاب خمسة آخرين منهم بجراح قبل أن يطلق النار على نفسه منتحراً، وذلك أثناء تدريب عسكري في ثكنة للجيش تقع في "باراسين" جنوب صربيا. ورد الصرب في سائر أنحاء الجمهورية بتحطيم البيوت والمحال التي يملكها المسلمون. ولم تكن المشكلة محصورة بين الصرب والألبان. ولكنها كانت تشمل كل الأقليات الأخرى، خاصة الكرواتيين، والمقدونيين والسلوفينيين. وقد استقلوا الآن جميعاً وكانت كوسوفو آخر حبة في العنقود.
أما الآن فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل تستطيع الدولة الجديدة أن تعيش اقتصادياً وسياسياً؟ فعلى الصعيد الاقتصادي تصل نسبة البطالة فيها إلى 40 في المئة. وكان الصرب في عهدي تيتو وميلوسوفيتش قد حرموا كوسوفو من إقامة أي مصنع فيها. وكانوا يستغلون اليد العاملة الرخيصة هناك. أما على الصعيد السياسي فتقع كوسوفو بين فكي كماشة الصراع الأميركي (الأوروبي)- الروسي.. لقد أجمعت أوروبا على تأييد ولادة الدولة الجديدة، ولم تتحفظ سوى الدول التي تشهد حركات انفصالية (مثل حركة الباسك في إسبانيا) خوفاً من أن يشكل استقلال كوسوفو سابقة يُقتدى بها.
وتتشدد روسيا في معارضة هذا الاستقلال، ليس تضامناً مع الصرب فقط، وإنما رغبة في جرّ المجموعة الأوروبية إلى الموافقة على استقلال الجيوب الروسية في جورجيا، مثل أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. ويرى الروس أنه إذا كان انسلاخ كوسوفو عن صربيا يعود لأسباب عنصرية ودينية، فإن الأمر نفسه ينطبق على أوسيتيا وأبخازيا. فلماذا تعمل أوروبا على دعم انفصال كوسوفو وتقف مع الولايات المتحدة سداً منيعاً في وجه انفصال الجيوب الروسية في أوروبا الشرقية والقوقاز؟ كذلك تخشى روسيا من أن إقرار الانفصال على قاعدة الاختلاف العرقي والديني يفتح الباب أمام استقلال الشيشان عن الاتحاد الروسي. وبالتالي فإذا وافقت موسكو على استقلال كوسوفو فإنها تقرّ بذلك بحق الشيشان في الاستقلال أيضاً. ومهما يكن من أمر، فإن ولادة دولة إسلامية جديدة في أوروبا من شأنه أن يعزز أوضاع ليس ألبانيا فقط، وإنما البوسنة أيضاً. الأمر الذي يفتح صفحة جديدة في العلاقات الإسلامية- الأوروبية.