جاءت دعوة حزب العدالة والتنمية التركي، للسماح بارتداء الحجاب في الجامعات، بصيغة يصعب على أي شخص لديه الحد الأدنى من الإيمان بالحريات الشخصية أن يعارضها، فقد جاء التعديل الدستوري الذي أقره البرلمان التركي مؤخراً، بالصيغة التالية، "لا يمكن حرمان أحد من حقه في التعليم العالي"، وهكذا فالنص لم يذكر الحجاب صراحة، وهو يمكن أن يفسَّر لصالح السفور، كما يمكن أن يفسر لصالح الحجاب، مما يجعل النص انتصاراً لليبرالية، باعتبارها حرية الفرد الشخصية. والواقع أنّ تغيُّر موقف العلمانية من الحجاب في تركيا قد تطوَّر في أثناء السنوات الماضية: إذ يذكر الباحث التركي متين هيبر، في بحث قدمه في المؤتمر السنوي لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية عام 2006، أن مؤسس تركيا العلمانية، مصطفى كمال أتاتورك، كان يعتقد أنّه لا يليق "بدولة تسعى للتحضر" فرض "الشادور" (الحجاب التركي)، ولكنه لم يعتقد في الوقت نفسه أنّ من اللائق منعه بموجب إجراءات قانونية، كما فعل في حالة الطربوش (أي أنّه كان أكثر تشدداً مع الرجال). وفي الثمانينيات، فُرِضت نصوص تمنع المحجبات من حق التعليم الجامعي ومن بعض الحقوق الأخرى خاصة في مجال العمل، وكان ذلك -إلى مدى كبير- بهدف منع صعود التيارات الإسلامية أو صبغ الشارع التركي بصبغتها، عن طريق رموزها الدينية ذات البعد السياسي، ومن تلك الرموز الحجاب. إن التجربة التركية سجلت تميزاً بين فهم ثلاثة تيارات لقضية الحجاب، أولها الليبرالية، وثانيها العلمانية، وثالثها الأصولية: فما يحدث في تركيا، إن كُتِب له أن يتم، يعني رفض مصادرة حقوق الأشخاص في اختيار نمط حياتهم، وهذا ما يمكن تسميته "الليبرالية المؤمنة". أمّا العلمانيون الرافضون لهذه الحرية، فهم تجسيد لنمط "العلمانية الديكتاتورية" المعادية للدين والمتدينين، وهي علمانية لم تكن موجودة فعلياً حتى سنوات قليلة إلا في فرنسا وتركيا، ووجدت عند بعض العلمانيين العرب، فيما امتازت العلمانية في باقي أوروبا بالليبرالية حتى ضربات 11 سبتمبر 2001 وما بعدها، عندما بدأت تحولات في الموقف من الإسلام والمسلمين وممارساتهم - في بعض الدول. أمّا الأصولية فتقع في بؤرة الصدام في تركيا؛ فبعض الرافضين للحجاب يطرحون طرحاً استباقياً وهو أنّه إذا كان من الحرية الشخصية عدم منع أي فتاة من ارتداء الحجاب، وعدم منع أي شخص من ارتداء الزي الذي يريد، فإنّ الخشية أن تكون الخطوة الحالية في تركيا هي تمهيد لخطوات لاحقة، نحو الأصولية. وفي التجربة الأصولية المعاصرة، يجد الرجل والمرأة -على السواء- نفسيهما محاصريْن في بعض الدول اجتماعياً، ليس بفعل موقف المجتمع واتجاهاته وحسب، بل والأهم من قبل أحزاب وجماعات تشتغل بشكل مخطط لفرض رؤيتها لكل شيء في الحياة. فالرجل كما المرأة، عليه الالتزام بنمط معين من الملابس وحلاقة أو غطاء الشعر، أحياناً بداعي الدين وأحياناً أخرى بداعي الهوية الوطنية، وهذه الجماعات تسعى لتحويل رؤيتها إلى قوانين ملزمة متى استطاعت. وتجارب أفغانستان وإيران والمناطق التي سيطرت عليها "القاعدة" في العراق، لفترة من الزمن تشهد بذلك؛ ففي إيران يحرم على الذكور في الجامعات لبس ألوان معينة، (كاللون الوردي كما ذكر لي بعض من درس هناك) والجلباب بمفهومه الإخواني، و"الشادور" بشكله الأفغاني... وهذه الأنماط من الثياب ليست معروفة تاريخياً حتى نقول إنّها عودة للأصول، بل هي من قبيل رؤية "أميرٍ" ما وتصوُّره للباس الشرعي. إنّ تجربة الحجاب التركي، توضح الفرق بين الليبرالية من جهة وبين كلٍّ من العلمانية والأصولية من جهة ثانية: فالليبرالية يمكن أن تكون مؤمنة كما يمكن ألا تكون، ولكن يجب أن تسمح بالحرية الدينية، وهي بالضرورة نقيض أيضاً للرؤية الأصولية القائمة على الجبرية، ونقيض لبعض النماذج التطبيقية العلمانية كما في تركيا وفرنسا. والسؤال هل تساهم التجربة التركية مع الحجاب في تعزيز الفهم الشعبي لليبرالية، باعتبارها حق الإنسان في الاختيار الطوعي لحياته؟ أم ستجهض هذه التجربة على يد الأوليجاركية العلمانية؟ أم أنّها ستكون فعلاً مقدمة لمرحلة أصولية، مما يجعلها ليبرالية غائية مؤقتة؟