بعدما قدمت المبادرة العربية حلاً للأزمة السياسية في لبنان من خلال الدعوة إلى انتخاب قائد الجيش رئيساً وتشكيل حكومة وحدة وطنية ووضع قانون انتخابي جديد، وهي المبادرة التي لاقت ترحيباً من مختلف الأطراف العربية واللبنانية والدولية، ها هي اليوم تقف من جديد أمام جدار الأزمة الداخلية، وبخاصة في بندها الثاني، الذي ينص على تأليف حكومة وحدة وطنية اختلفت الموالاة والمعارضة في نسب التمثيل فيها. ومن خلال تحركات عمرو موسى لعرض المبادرة الرامية إلى تحقيق مصالحة في لبنان، اتضح مدى مرونة الأكثرية مقابل تصلب المعارضة التي ترغب في أن يكون لها على الأقل ما يكفي من الوزراء لممارسة حق نقض القرارات الحكومية، أي أنها تؤكد بأنه ليس للبنان المستقل عن الإرادات الإقليمية أن يُشكّل حكومة، ولا أن تكون له سياسات داخلية وخارجية نابعة من إرادة أبنائه، لأن القرارات التي ستخرج من مثل هذه الحكومة الوطنية، إذا ما ولدت أصلاً، ستكون مقوضاً كبيراً لما تملكه المعارضة من قوة ومصالح واستراتيجيات تتقاطع مع الخارج القريب والبعيد. وبعدما كان محور الجدل في الزيارة السابقة لموسى ينحصر في البند الثاني تحول إلى البند الأول، أي ترشيح العماد سليمان الذي يمثل جوهر المبادرة ومبررها، وهو التوافق الذي كادت تعصفُ به، وبالمبادرة العربية كلها، مظاهراتُ بيروت التي سقط فيها ضحايا على يد الجيش. ليس في هذه الصورة إلا المنطق الذي يقول إن للأكثرية والمعارضة أهدافاً ومصالح وعلاقات خارجية، هي في الأساس متصادمة وليست متقاطعة بالقدر الذي يمكِّن من المحافظة، في مساحة التقاطع، على أمن لبنان وسيادته ومصالحه الوطنية. وإذا سلمنا بأن مفاتيح المعضلة اللبنانية الداخلية وأبوابها المغلقة موجودةٌ بيد دول إقليمية وخاصة السعودية ومصر وسوريا وإيران، فإن المفاتيح السورية لا تستطيع فتح أبواب المعارضة اللبنانية المغلقة، أو هكذا يبدو، حتى لا تسمح للمملكة العربية السعودية بتحقيق مكاسب مع قوى 14 آذار التي لا تريد المساومةَ على السيادة والأمن والمصالح اللبنانية العليا. وهذا كلُّه له دلالة بأن هناك صراعاً بين الشقيقتين العربيتين في لبنان، كما أن المصالح الخاصة والعامة لها دورها في المعضلة. وكان هذا الصراع واضحاً في ما جاء على لسان بعض المسؤولين السوريين الذين يفسرون المبادرة العربية بأنها منحازة للأكثرية اللبنانية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى بعد آخر يبرز من خلال أثر الصراع الداخلي اللبناني في المنطقة، ويكشف لنا عن ذات التوجه في إلقاء المسؤولية على عاتق قوى إقليمية، وهو ما يجري في العراق الذي يرى بعض مسؤوليه أنه أصبح ساحة للصراع بين إيران والسعودية. وعند التسليم بهذا الصراع الدائر بين الطوائف العراقية والتدخلات الإقليمية، فإن ما ستفرزه الساحة اللبنانية من نتائج بين المعارضة وقوى 14 آذار في صراع الأبواب المغلقة والمفاتيح الإقليمية ستكون له انعكاسات على فهم ما يجري في العراق بصورة أو بأخرى عبر مظاهر الطائفية والمذهبية والقومية والسياسة والاقتصاد والثقافة. وبالإضافة إلى ذلك فقد جُرَّ لبنان إلى حالة من الفراغ في ظل غياب مُنَاخ إقليمي ودولي يساعد على انتشاله من أزمته الداخلية، التي تنطوي في حد ذاتها على الكثير من الأبعاد الصراعية الدولية والإقليمية. وتتضح هذه الأبعاد في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والسوري، من خلال الأزمة بين "فتح" و"حماس"، فدمشق مطالَبة بتسهيل التوصل إلى توافق فلسطيني- فلسطيني باعتبار أنها متَّهمة بتبَني تنظيمات المقاومة الفلسطينية، وذلك تمهيداً لمطالبة المجتمع الدولي بالتدخل لدى الإسرائيليين لوقف الحرب على قطاع غزة. وجدير بالذكر أن غياب التفاهم الفلسطيني- الفلسطيني يتداخل مع قضايا التوترات العربية- العربية. والبعدُ الآخر، وهو إقليمي أيضاً، يكمن في الملفات الشائكة والخلافية التي تبدو مستعصية ولها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالملفات الفلسطينية واللبنانية والعراقية، فطهران وموقفها من الغرب، وملف التخصيب والحصول على التكنولوجيا النووية قد يجعلها راغبة، بما تملك من نفوذ إقليمي، في تعليق الأزمة اللبنانية إقليمياً ودولياً لكي يخفف عنها ذلك الضغوط الدولية المختلفة، وربما لكي تحافظ على ما تستطيع أن تساوم وتقايض به من أجل مصالحها العليا. أما الأبعاد الدولية للبنان، ويبدو أن أحدثها هو محاولة دمشق مغازلة باريس من خلال وسيط عربي، تمثل في قطر وإبدائها الرغبة في التعاون مع باريس لإيجاد حل للأزمة اللبنانية على حساب المبادرة العربية والشخصية الرئاسية المرشحة، والتي باتت دمشق لا ترى إلا أنها ذات ميول للأكثرية، وبالتالي سوف تسعى عبر حلفائها في لبنان إلى تعطيل إمكانية ترشيحه، وهذه المحاولة للتقرب من باريس رفضت من جانب الرئيس ساركوزي الذي يناصر المبادرة العربية بقوة كبيرة، والتي يعتبرها تمثل الرؤية الفرنسية، فباريس والاقتراب منها كان يحمل لدمشق الكثير لما تمثله من دور إقليمي ودولي، ناهيك عن أنها تمثل سياسة غربية ضمن أوروبا وما تحمله من علاقات قوية مع واشنطن، وهو ما يمثل الكثير أيضاً لطهران والقضية الفلسطينية. أما موسكو، فإنها أوضحت موقفها بصراحة من خلال الحديث عن ضغوط أميركية على موسكو لمنع انعقاد مؤتمر سلام بين إسرائيل وسوريا، والذي تقرر في مؤتمر أنابوليس. ومع الإعلان عن تسلم إيران الشحنة السادسة من اليورانيوم الروسي المخصب لاستخدامه في محطة "بوشهر" النووية، في وقت تبنت فيه مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن مسودة مشروع قرار جديد بفرض عقوبات إضافية على إيران بشأن برنامجها النووي، وفي ظل تأزم الوضع اللبناني الداخلي والفلسطيني والعراقي أيضاً، فقد أوضحت بقوة عبر الخليفة المحتمل للرئيس فلاديمير بوتين، وهو "ديمتري ميدفيدف" عن الدور العالمي الجديد لبلاده، بقوله، إن روسيا لم تعد التلميذ العاقل... وجاء تهديد روسي بأن موسكو ستدافع عن حلفائها حتى ولو اضطرت إلى استخدام الأسلحة النووية! وهذا الموقف الروسي في الشرق الأوسط كان حافزاً على تطوير العلاقات الإسرائيلية- الروسية التي سوف تستند في المستقبل إلى التفاهم حول المصالح الإقليمية والدولية بين الطرفين، وهذا يؤكد بأن موسكو فاعل عالمي ودولي لا يمكن تجاوزه كما كان في فترة ماضية. وهكذا، فإن أبواب لبنان المغلقة ومفاتيحها الإقليمية والدولية، جعلت من الأطراف اللبنانية، أكثريةً ومعارضةً، ترسم حقيقة واحدة للعيان، وهي أن مفاتيح تلك الأبواب المغلقة بيد إقليمية، وأن تلك المفاتيح أصبحت تهمّ أطرافاً دولية كبرى، وأي استخدام لها لن يتم إلا بعد توافر الرغبة الدولية، وبذلك يسجل لبنان بأن الفاعل الدولي، أصبح الآن هو المحرك الأساسي والأهم لمعضلةٍ بدأت في أحياء لبنان ليتحول إلى مرآة للصراعات الإقليمية في الشرق، مرآة تريد منها الأطراف العالمية أن تعكس صورة أخرى للنظام الدولي لتوزيع جديد للمكاسب والنفوذ. وكان لا بد أن يتأجل انتخاب الرئيس من جديد، وأن يمتد عمر الأزمة! ربما أَلِف اللبنانيون حالة المراوحة والسجال السياسي بين وجوه كل واحد منها يذكِّر بالحرب الأهلية. ويبدو أن وجود رئيس كعدمه، وهو ما قد يرضي القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على أرض لبنان. ولكن الأهم من كل هذا، هو أنه يكشف تخوف كل طرف من حسم الأمر لصالح خصمه، كما لو أن الجميع يريد الذهاب إلى نهاية اللعبة، يسعى إلى نهاية كل المؤسسات!