هل من الضروري أن يتم اعتماد بعض جوانب من الشريعة الإسلامية في النظام القانوني البريطاني, وإلى أي مدى, وماذا سيتولد عن ذلك؟ وهل هناك مسوغات ملحة لمثل هذا الطرح أم أنه أقرب إلى التمرين النظري والجدل ربما السفسطائي؟ وإلى أي حد يمكن أن تساعد هذه الأفكار مسلمي بريطانيا, وتسهل عليهم حياتهم, أو هل ستجلب عليهم ضغوطاً وتثير من حولهم شكوكاً وعنصريات إضافية هم (ونظراؤهم في أوروبا بعامة) في غنى عنها؟ هذه وأسئلة كثيرة لا يمكن حصرها فيما تتيحه مساحة هذا المقال هي ما أثارته دعوة أسقف الكنيسة الأنجليكانية رون ويليامز, والذي يمثل السلطة الدينية الأعلى والأهم في بريطانيا, إزاء فكرة منح الاعتراف القانوني للشريعة في بريطانيا وتخويلها البت قانونياً في "بعض" شؤون المسلمين. ما أشار إليه الأسقف هو وجود سلطات وهيئات تحكيم شبه قضائية وشبه رسمية عند الجالية المسلمة البريطانية, و"ضرورة" الاعتراف بهذا "الأمر القائم" وتضمينه في النظام القانوني عوض أن يظل خارجه. وأضاف أن مثل هذه الخطوة تعزز من انتماء أفراد الجالية المسلمة للقانون البريطاني برمته وترسخ من مواطنتهم بحيث يشعرون بأنهم على قدم المساواة مع بقية سكان البلاد. وذكر الأسقف أيضاً أن ما يطرحه لا يشمل القانون الجزائي الجنائي (قاصداً بوضوح استبعاد نظام العقوبات الإسلامي وما يثيره مباشرة في المخيال الشعبي الغربي, خاصة عقوبات الجَلد, والرجم, وقطع الأطراف), بل وعلى وجه التحديد قضايا الزواج والطلاق والإرث. أحدثت هذه الأفكار التي أوردها الأسقف في كلمة مكتوبة بعناية وألقاها أمام جمعية قضائية رفيعة المستوى قيامة فكرية وسياسية في بريطانيا, واحتل النقاش حولها كل وسائل الإعلام، وُوجه بنقد واسع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار, واتهم باتهامات شتى أخفها الضحالة الفكرية وتورطه في رمال متحركة غير ضليع باتجاهاتها. المشكلة الأولى التي واجهها الأسقف وأفكاره هي المناخ السائد الآن ليس في بريطانيا فحسب بل في أوروبا بشكل عام, والذي يشكله, فيما خص النقاش هنا, عاملان أساسيان: الأول, سياسوي وشعبوي, متعلق بنواتج "الإرهاب القاعدي" في نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001, ثم في مدريد في مارس 2004, ثم في لندن في يوليو 2005, وما رافقها وجاورها من إرهاب هنا وهناك كانت لأفراد من الجاليات المسلمة في أوروبا "مساهمة" بارزة وفعالة فيه. والعامل الثاني نخبوي فكري ثقافوي, مرتبط إلى حد ما بالأول, ومتعلق بالانهيارات المتلاحقة لنظرية وتطبيقات "التعددية الثقافية" التي سادت عدداً من الدول الأوروبية من ضمنها بريطانيا. وبحسب هذه النظرية كانت الحكومات الأوروبية المعنية تترك للجاليات الإثنية والدينية حرية أن تحافظ على هوياتها الثقافية كما تشاء, بالإضافة بالطبع لممارستها عقائدها الدينية بحرية كاملة. ومعنى ذلك أن الدولة كانت تبتعد عن تبني سياسة "دمج" للجاليات أو أفرادها فلا تفرض عليهم أن يصبحوا مثل أفراد البلد الأصليين, بل بإمكانهم الحفاظ على هوياتهم الأصلية شرط القيام بواجباتهم المواطنية. هذه النظرية هي الآن محل هجومات متواصلة, وأيضاً من اليسار واليمين, حيث اعتبرت مسؤولة عن نشوء غيتوات إثنية وهوياتية, ومنها إسلامية, وولدت مجتمعات منعزلة داخل المجتمع الكبير. وهذا المناخ بطبيعة الحال يرى ويفسر أطروحات الأسقف ويليامز على أنها ليست دعوة يائسة لإنهاض النظرية الفاشلة فقط, بل وتوسعها إلى مدى متطرف لم تكن تحلم به حتى في أيام "عصرها الذهبي". والمشكلة الثانية في طرح الأسقف هي الشكوك المثارة حول دوافع هذا الطرح الهجومي الجريء الذي من المؤكد أنه, ومستشاريه معه, قد توقعوا ردة الفعل القوية عليه شعبياً ورسمياً وسياسياً. وبعض النقاد, حتى من مربع اليسار والليبرالية وبواقي أنصار التعددية الثقافية, رأوا في أفكاره محاولة التفافية لإعادة إقحام الدين في الفضاء السياسي والقانوني المعلمن. وأن استخدام فكرة "الشريعة", لا المسيحية بشكل مباشر, ليس سوى مطية لهدف أكبر وأهم هو "حشد الصف المؤمن" ضد تسيُّد العلمنة في أوروبا. ويأتي هذا التحليل المتشكك على خلفية الحذر من "خطاب الأسى" المتكرر الذي يعلنه البابا بنديكتس السادس عشر إزاء وثنية وإلحاد أوروبا. وتعتبر هذه النقطة هي أكثر ما يثير المفكرين والسياسيين العلمانيين في بريطانيا, حيث يرون فيها ردة كبيرة, وفتح كوة للدين في النظام القانوني والسياسي الذي قام ونجح لأنه وضع حداً لتدخلات الدين في السياسة والقانون. وقد رأى بعض النقاد أن هناك انتهازية في استخدام وحشد المسلمين الذين, من المتوقع, أن يهبوا عاطفياً لتأييد الأسقف ودعوته. ويرتبط بهذه النقطة نقاش واسع حول تواؤم الشريعة الإسلامية مع حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وكثيرٍ من الجوانب التي أثارت غضباً علمانياً واسعاً هنا. لكن المشكلة الثالثة تخص المسلمين البريطانيين أنفسهم وما إن كانت هذه القضية هي مما يلح عليهم في حياتهم العادية, أم أن فيها قدراً كبيراً من الافتعال النخبوي والتوظيف السياسي. في واقع الأمر ليس هناك ما استجد في حياة الجالية المسلمة في بريطانيا, التي يزيد متوسط عمرها الآن عن نصف قرن عند اعتبار أن غالبيتها الكاسحة من الهنود والباكستانيين والبنغاليين, سوى صعود "الإسلاموية الحركية". خلال العقود الماضية تطورت أعراف وجمعيات عديدة غالبيتها تابعة للمساجد المحلية التي تزيد في عددها عن الألف وسبعمائة مسجد، ويشرف عليها أئمة أو "علماء" يقومون بتصريف شؤون الجالية, وفض النزاعات وفق الشريعة الإسلامية. كما أن عقود الزواج والطلاق تتم في ذلك الفضاء الخاص. لكن ذلك الشكل "شبه القضائي" كان يتوقف عند تلك القضايا ولا يمتد للجانب الجنائي المتروك للنظام القانوني البريطاني. مع ذلك لابد من القول إن شبه الاكتفاء التحكيمي والقضائي والانعزال في القضايا الاجتماعية ساهم بشكل من الأشكال في توسيع الفجوة بين الجالية المسلمة والمجتمع المضيف العريض. لكن في المجمل العام لم تكن هناك قضية ملحة وضاغطة على الوسط العام لمسلمي بريطانيا. بيد أن الذي تطور في العقد الأخير هو في الواقع أجندة الجمعيات المتنافسة (المُسيطر عليها في الغالب من قبل الحركات الإسلامية المعاصرة) التي برزت وصارت تزعم أنها تتحدث باسم الجالية المسلمة العريضة وتدافع عن قضاياها. وبموازاة صعود هذه الجمعيات والروابط تطورت أجندات سياسية لا تخلو من افتعال وتركيب فوقي على الواقع العادي الذي يحياه مئات الألوف من المسلمين في هذا البلد. صارت "أجندة الحركات الإسلامية" وعبر الهيئات الناطقة باسم الجالية وكأنها أجندة المجموع العام لتلك الجالية. وبسبب الأنشطة والإعلام والضجيج العالي أدى ذلك بطبيعة الحال إلى خلق تماهٍ (غير حقيقي في واقع الأمر) في الصورة العامة للمسلمين في المجتمع البريطاني عند الرأي العام هنا بين حقيقة حياة وواقع تلك الجالية والخطابات الإسلاموية الحزبية, المتطرف منها والمعتدل. والآن تأتي دعوة الأسقف ويليامز لتورط الجالية وعمومها في مشكلة أكبر بكثير من قدرتها على التحمل أو حتى على استيعاب أبعاد الموضوع وما يمكن أن يترتب عليه. فهناك طبعاً انجراف عاطفي عند الشريحة الحزبية في هذه الجالية القريبة من الهيئات والجمعيات المشار إليها في الأسطر أعلاه, ومن منظور ذلك الانجراف ثمة "نصر مؤزر" قد تحقق وبان على لسان الأسقف. لكن التأني في المسألة يشير إلى أن تلك الدعوة ستستفز أعماقاً أخرى في الرأي العام البريطاني ضد المسلمين وتزيد من "الإسلاموفوبيا", والنظر إلى أفراد الجالية المسلمة على استعصاء اعتبارهم مواطنين كغيرهم. وهو الأمر الذي انتبه إليه النواب المسلمون في مجلس العموم البريطاني وبناء عليه تحفظوا ورفضوا دعوة الأسقف ويليامز.