قد تكون اللحظات الحالية لحظات مصيرية بالنسبة لكينيا، على وجه التحديد. فبعد المواجهة التي استمرت لأسابيع بين "موي كيباكي" و"رايلا أودينجا"، اللذين يدعي كل منهما الفوز بالانتخابات الرئاسية التي عقدت في 27 ديسمبر 2007، ينخرط الاثنان حالياً في مفاوضات يشرف عليها الأمين العام السابق للأمم المتحدة "كوفي عنان". وتشير الأنباء التي رشحت عن تلك المساعي إلى أن الجانبين قد اتفقا على خطة للسلام، وأنه ثمة دعوة لتأسيس لجنة للحقيقة والمصالحة، لتحديد المسؤولين عن أحداث العنف الأخيرة ومحاسبتهم. ويشار أيضاً في هذا السياق إلى أن الاتحاد الأفريقي قد وضع الأزمة الكينية في مقدمة أولوياته، وهو ما فعله الاتحاد الأوروبي كذلك، كما أن الكونجرس الأميركي قد عقد جلسة خاصة للنظر فيما شابَ تلك الانتخابات من عيوب. ويحدوني تفاؤل حذر بأنه من الممكن التوصل إلى قرار بشأن هذا الموضوع، واستعادة السلام لبلادي. والمطلوب منا كي يتحقق ذلك أن نعمل أولاً على تحديد الأسباب الجوهرية التي أدت إلى العنف ولا نحاول التغطية عليها، كما اعتاد السياسيون الكينيون أن يفعلوا في الماضي. والحقيقة أن كينيا بدت لستة أسابيع متواصلة وكأنها قد دخلت في حرب مع نفسها، ومما فاقم من حدة الأسى الذي ترتب على ذلك، أن العنف كان محملاً بحمولات إثنية عرقية، على رغم أن الكينيين يعرفون جيداً -وهو سبب آخر للأسى- أن الصراعات القبلية وحش فتاك، وإذا ما انطلقت من عقالها بسبب السياسيين وخصوصاً أثناء الانتخابات العامة فقد يصعب كبح جماحها. فقبل الانتخابات التي جرت عام 1992 وبعدها بوقت قصير، أدى العنف الذي اندلع آنذاك إلى إبادة جماعات بأسرها في "الوادي المتصدِّع"، حيث قُتل المئات، بل الآلاف، ونزح آلاف آخرون من مناطقهم، ولم يتمكنوا من العودة إليها حتى الآن. وفي نفس الوقت الذي نسعى فيه جاهدين لحل الأزمة الحالية، فإننا بحاجة إلى معرفة السبب الذي يؤدي إلى تكرار مثل تلك الصدامات. وعندما يحدث ذلك، يمكن للجراح أن تندمل، ويمكن للناس أن يتطلعوا بأمل إلى المستقبل. ومن المعروف أن بين الأسباب الرئيسية لاندلاع مثل تلك الصراعات، عدم التوزيع العادل للثروة في كينيا وخصوصاً منها الأراضي. فالسلطات الاستعمارية، عملت على ترحيل أعداد كبيرة من الكينيين من أراضيهم بالقوة، لتخصيص تلك الأراضي للمستوطنين الأوروبيين. وبعد أن استقلت كينيا عادت تلك الأراضي مرة أخرى إلى الكينيين، بيد أن النزاعات المتعلقة بملكيتها وتوزيعها ظلت قائمة منذ ذلك الحين، وهو ما جعل موضوع الأراضي بشكل دائم مجالاً للنزاع والمعارك بين الساسة والأحزاب داخل المشهد السياسي الكيني شديد التنافسية. وكثيراً ما يقتنع المواطنون الكينيون بالوعود التي يقدمها لهم الساسة بمنحهم أراضي مقابل الأصوات الانتخابية التي سيمنحونهم إياها. ونظراً لأن الطريقة الوحيدة للحصول على الأراضي في كينيا، هي اغتصاب أراض من خلال إجبار كينيين آخرين موجودين فيها على الرحيل، فإن ذلك كان يعني أن جيران مغتصبي الأراضي، كانوا هم دائماً الضحية الأسهل، بطبيعة الحال. ومما كان يشجع هؤلاء المغتصبين على القيام بذلك، أنهم كانوا يعرفون أن الاحتمال الأرجح، هو أنهم لن يتعرضوا أبداً للعقاب عندما يفعلون ذلك. وكان هؤلاء المغتصبون يعمدون إلى إرهاب أصحاب الأرض الأصليين، وتدمير روحهم المعنوية، كي يضمنوا أنهم لن يعودوا أبداً إلى أراضيهم المغتصبة. ومن المعروف أن الدولة الأفريقية الحديثة قد نشأت في الأساس كنتيجة لعملية تجميع فضفاضة للمواطن القبلية والقوميات المصغرة. وكينيا كمثال تضم 42 موطناً قبلياً أو قومية مصغرة، يبلغ تعداد أكبرها عدة ملايين من المواطنين فحسب، في حين لا يزيد تعداد أصغرها عن عدة آلاف. ويتم حسم مسألة السلطة السياسية عادة وفقاً لتعداد القبيلة وقوتها النسبية. والنزاعات القبلية الدموية التي تندلع في كينيا وغيرها من الدول الأفريقية، تكشف عن الطبيعة الهشة للدولة- الأمة في القارة السمراء. فمن المعروف أن معظم الدول الأفريقية قد نشأت على أيدي القوى الاستعمارية الأوروبية التي عملت عادةً على تجميع مجموعة قوميات مصغره في دولة، أو تفتيت قومية واحدة كبيرة الى عدة دول، ثم تمنح الكيانات التي تنشأ عن ذلك اسماً وعلماً، ونشيداً وطنياً، وتسلم إلى نخبة منتقاة من الساسة الذين تلقوا تعليمهم في الغرب، والذين كان معظمهم يتعاطف مع الإدارة الاستعمارية. ومعظم الأفارقة، على أرض الواقع، لا يفهمون حتى الآن معنى الدولة- الأمة، ويظل ولاؤهم الأساسي للقبيلة أو للقومية المصغرة. ولتغيير هذا الوضع، وخلق دول- أمم أكثر تماسكاً، فإن النخب السياسية في الدول الأفريقية يجب أن تخصص المزيد من الوقت والموارد لضمان الحريات العامة في تلك الدول، وتعزيز الأمن، والتوزيع العادل للموارد. ويجب على الأفارقة -وأرجو ألا يفهم من ذلك أنني أسعى إلى تفتتت القوميات المحلية- أن يتبنوا ثقافاتهم، ولغاتهم، وقيمهم الخاصة، ثم يعملوا بعد ذلك على نقل أفضل ما في الثقافات القومية إلى الدولة- الأمة، لأن ذلك هو الذي سيساهم في إثراء الدولة الأمة من جانب وثقافتهم المحلية من جانب آخر. وعندما تبدأ القوميات المصغرة في إدراك مزايا هذه المقاربة التي يطلق عليها في الأدبيات السياسية "الوحدة من خلال التنوع"، فلن تكون ثمة حاجة لأحد لأن يقوم بالتخطيط، أو التحريض على النزاعات القبلية ضد الجيران، وسيتم انتخاب الزعماء والقادة السياسيين بناء على مزاياهم وقدراتهم والتزاماتهم، وليس بناء على عدد الأصوات التي يتم تجميعها من قبائلهم، والتي يحصلون عليها مقابل المواقف المتصلبة التي يتخذونها من أجل الدفاع عن مصالح تلك القبائل. وبهذه الطريقة قد يصبح الأفارقة قادرين على السمو فوق المناورات السياسية الصغيرة، والإيمان بحلم توحيد أفريقيا الذي يراود دولهم كما يراود الاتحاد الأفريقي أيضاً. ولكن ينبغي أن يكون معروفاً أن ذلك يتطلب قيادة، ليس فقط من قبل النخبة ولكن من جانبنا نحن الأفارقة جميعاً، لأن ذلك هو الطريق الوحيد نحو حل الأزمة الكينية الحالية، وتحقيق السلام الدائم. ـــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"