قبل أكثر من أربعين سنة خطب الرئيس الأميركي ليندون جونسون في الشعب الأميركي خطاباً سياسياً، يحمل في مضمونه اتجاه أميركا نحو غزو فيتنام، مستخدماً فيه جملة من العبارات التي نسمعها اليوم من القادة الأميركيين للتأثير على الرأي العام في بلادهم بهدف تمرير قراراتهم الصعبة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالحرب حيث قال جونسون: "إن الأميركيين حراس على جدران الحرية العالمية". وبعد هذا الخطاب أرسلت أميركا أكثر من نصف مليون شاب أميركي للقتال في جبال وحقول فيتنام الجنوبية، وفق قناعة أميركية تقول بأن المتمردين الشيوعيين في فيتنام لم يكونوا ثواراً وطنيين مناهضين للاستعمار، بل هم رأس حربة في مؤامرة شيوعية دولية للسيطرة على العالم، مدعومين من الصين والاتحاد السوفييتي، فإذا سقطت فيتنام في يد الشيوعية فإن كمبوديا وتايلاند وماليزيا والفلبين... ستسقط وراءها بالتتالي مثل أحجار "الدومينو"، وإذا لم نوقفهم الآن في فيتنام فسوف نضطر إلى قتالهم عاجلاً على شواطئ كاليفورنيا! وبعد عشر سنوات من القتال، كانت النتيجة ملايين الضحايا حيث قتل من الجانب الأميركي 58 ألف جندي ومن الجانب الفيتنامي 3 ملايين. انتصرت فيتنام وهزمت أميركا على يد المقاومة الوطنية الفيتنامية، وقام الفيتناميون بتوحيد البلاد، ولم تسقط تايلاند ولا ماليزيا ولا الفلبين، لم يسيطر الشيوعيون ولم يصلوا إلى شواطئ كاليفورنيا، ولم تكن هناك مؤامرة عالمية للسيطرة على العالم كما صورها خطاب جونسون. ولعل ما يحدث اليوم صورة مشابهة لما حدث قبل أربعين عاماً، رغم الفارق الزمني، فالتاريخ يعيد نفسه، وهاهو الخطاب السياسي الأميركي قد استبدل شبح الشيوعية بشبح بالإسلام، وفيتنام بالعراق... على أساس أن أمن أميركا كما يقول الرئيس بوش، يتحدد في شوارع بغداد، وتدريجياً تحول الإسلام إلى خطر يصنف في أجندة السياسة الغربية على أنه إرهاب، وأن هذا الإرهاب عبارة عن مؤامرة وأن العراق كما جاء في خطاب بوش عام 2005 هو قبلة للشبكات المقاتلة، وأن المقاتلين إذا ما سيطروا على بلد واحد فسوف يعبئون الجماهير المسلمة وسيمكنهم قلب كل الحكومات المعتدلة في المنطقة وتأسيس إمبراطورية إسلامية شاسعة تمتد من إسبانيا إلى إندونيسيا، ومع وضع أيديهم على موارد هذه الإمبراطورية العالمية سوف يعملون على تحقيق أجندتهم المعلنة: تطوير أسلحة دمار شامل وتدمير إسرائيل وترهيب أوروبا والاعتداء على الأميركيين! لذلك فإن على أميركا أن تجند كل قوتها ووسائلها للدخول معهم في حرب عالمية طويلة. وبالفعل فإنه وفقاً لتقرير صادر من البنتاغون عام 2006، قد تضطر أميركا إلى خوض الحرب في عشرات الدول في وقت واحد ولسنوات طويلة. هذا المنطق الاستراتيجي الذي تحرك منذ غزو العراق، فشل إلى حد كبير بفعل المقاومة العراقية، وأصبح الخبر المهم اليوم هو كيف تخرج أميركا من مأزق العراق؟ هذا المنطق الذي قاد المنطقة إلى أخطر تحدٍ تواجهه منذ الحرب العالمية الثانية، هو الذي تحدث عنه الكاتب والمؤرخ "جوين دايار" في كتابه الصادر حديثاً "الفوضى التي نظموها: الشرق الأوسط بعد العراق"، عندما قال إنه تم جعل الحرب على الإرهاب مثل العربة التي يريد الجميع الركوب فيها لتحقيق أهدافه الاستعمارية. وقد وصف المؤلف ذلك المنطق بأنه "صليبي أيديولوجي" لا يكترث بتاريخ الدول وثقافتها ودينها واستقلالها، همه الأساسي تحقيق الهدف من الاحتلال على أساس مضللٍ جداً، هدفه جلب القيم الأميركية ولو بقوة السلاح من منطلق أن جلب القيم بالقوة سيجعل الشعب يتبنى هذه القيم بشغف شديد، ويتحول إلى الديمقراطية ويحب إسرائيل ويؤمن باقتصاد السوق.