البحث العلمي والسياق الاجتماعي
لا يمكن الحديث عن العلم باعتباره نسقاً اجتماعياً، كما يقرر علم اجتماع العلم، بغير بلورة إطار نظري يحدد العلاقات المتبادلة بين أطراف متعددة، تسهم في نشاط البحث العلمي، وتستفيد من ثمار نتائجه في مجال التنمية المستدامة من ناحية، وفي ميدان التقدم الاجتماعي بشكل عام.
وقد اقترحنا أن يتشكل هذا الإطار النظري من ثلاثة مداخل أساسية. أولها مدخل سوسيولوجيا العلم الذي لا يركز فقط على النسق السياسي في ارتباطه بالبحث العلمي، ولكنه يهتم أيضاً بالنسق الاقتصادي، وخصوصاً في مجال الميزانيات المتاحة للبحث العلمي.
ولا يجوز في هذا المقام إغفال النسق الثقافي السائد، والقيم الاجتماعية المؤثرة على سلوك البشر، ووضع العلم في سلم القيم، ومدى سيادة التفكير العلمي في المجتمع، وضروب الإبداع والتجديد، وأنماط التفكير المحافظة أو الرجعية التي قد تعوق البحث العلمي.
والمدخل الثاني هو مدخل السياسة العلمية، ونعني وجودها أو غيابها في المجتمع في لحظة تاريخية ما. ونصل أخيراً إلى المدخل النهضوي ونعني به: هل هناك رؤية استراتيجية للمجتمع بلورتها النخبة السياسية لتحقيق التنمية المستدامة أولاً.
وهذا المدخل الأخير يطرح سؤالاً بالغ الأهمية مؤداه ما هو تأثير النظام السياسي على البحث العلمي؟
والواقع أن النظام السياسي بتوجهاته -أياً كانت- يؤثر تأثيراً بالغاً على مجمل أنشطة البحث العلمي في مجال البحوث الاجتماعية والطبيعية على السواء. ويكفي أن نطالع المراجع الأساسية في مجال سياسات العلم لكي نتأكد أن توجهات النظام السياسي قد تفرض توجيهاً للموارد ناحية بحوث معينة، نظراً لتعلقها بسياسات الأمن القومي، كما تدركها النخبة في لحظة معينة.
غير أن تأثير توجهات النظام السياسي، وإدراكات النخبة السياسية الحاكمة ليست في الواقع سوى طرف واحد من أطراف المعادلة. ذلك أن الطرف الثاني هو العلماء أنفسهم الذين يكونون ما يطلق عليه "المجتمع العلمي". وهذا المجتمع العلمي -في البلاد المتقدمة علمياً وتكنولوجياً- له سطوة هائلة في عملية اتخاذ القرار العلمي. فقد استطاع أعضاؤه أن يبنوا لأنفسهم مكانة خاصة في المجتمع، تحت شعار "العلم بالغ الأهمية بحيث لا ينبغي أن يترك للسياسيين". ومعنى ذلك -بمفهوم المخالفة- أن تترك عملية إصدار القرار العلمي للعلميين أنفسهم. غير أن ذلك يثير أسئلة متعددة: هل العلميون يختلفون حقاً عن غيرهم من أفراد الشعب فيما يتعلق بالتطلعات والطموحات والأساليب الملتوية في بعض الأحيان التي تتبع للوصول إلى المكانة؟ وألا يمكن أن تغريهم اعتبارات الشهرة العلمية أو الرغبة في الكسب المادي، مما يؤدي بهم إلى الانحراف في ممارساتهم العلمية، ومما يثير قضية أخلاقيات البحث العلمي بكل جوانبها المتشعِّبة؟
لقد ثبت من الدراسات المقارنة لسياسات العلم، أن توجهات أعضاء المجتمع العلمي، لو استطاعوا إقناع النخبة السياسية الحاكمة، يمكنها أن تدفع بالبحث العلمي في اتجاهات إيجابية للغاية، من شأنها أن تؤدي إلى تقدم البلاد، وتعميق التنمية في كل مجالاتها، وحل مشكلات البشر، كما أنها يمكن -على العكس- أن تدفع البحث في دروب ملتوية، وبغير أهداف واضحة، مما يؤدي إلى إهدار الملايين في غير طائل.
نحن لا نتحدث هنا عن الخطأ المشروع في اتخاذ القرار العلمي. فليس هناك عالِم أياً كان يمتلك الحقيقة المطلقة، أو عنده القدرة الكاملة على التنبؤ. ولكننا نتحدث عن محاولات الاحتيال باسم العلم، من خلال إقناع النخبة السياسية الحاكمة بأهمية مشروعات علمية معينة، ثم يتبين أنه ليس لها أي أساس علمي، وأن من تقدموا بها، لم يسعوا سوى للحصول على أكبر ميزانيات البحث العلمي، لضمان بقائهم في وظائفهم العلمية.
وحتى لا تأخذنا النظرات المقارنة في سياسات العلم الأجنبية بعيداً عن الوطن العربي، فإننا نستطيع أن نلخص جوانب التأثير السياسي على البحث العلمي في الوطن العربي في عدد من المقولات الأساسية:
يؤدي مناخ القهر السياسي إلى التأثير سلبياً على ممارسة البحث العلمي في الوطن العربي، سواء في مجال البحوث الاجتماعية والسياسية، أو في مجال العلوم الطبيعية. وفي المجال الأخير هناك مجال واسع للاختيار بين بدائل عديدة في مجالات حساسة. مثلاً هل ندخل مجال البحث النووي أولاً؟ هل ندخل مجال بحوث الفضاء أولاً؟ لأن توفر حد أدنى من حرية التعبير والتفكير هو الذي يسمح للعلماء بأن يعبروا عن آرائهم بحرية، حتى لو خالفت آراء النخبة السياسية الحاكمة. ونستطيع أن نضرب مثلاً حياً على ذلك، بالجدل الذي ثار حول إنشاء محطات نووية للطاقة في مصر. في مرحلة أولى كان هناك اتفاق بين القيادة السياسية والنخبة العلمية على ضرورة البدء في ذلك كاستراتيجية للطاقة في مصر، غير أن القيادة السياسية -خصوصاً بعد حادث تشيرنوبل بما تضمَّنه من تسرب نووي- غيرت رأيها وقررت إلغاء المشروع.
غير أن مناخ حرية التعبير في مصر سمح للعلماء الذين اختلفوا مع رأي القيادة السياسية بالتعبير عن آرائهم، وقد أدى ذلك من بعد إلى صدور قرار سياسي بالبدء في إنشاء محطات نووية للطاقة.
ويمكن القول إن نمو البحث العلمي في بلد ما يتوقف على مدى إيمان النخبة السياسية بالعلم ذاته كقيمة أساسية في المجتمع، وعلى ضرورة تأسيس عملية صنع القرار على نتائج البحوث العلمية.
وينعكس الإيمان بجدوى العلم على نوعية المؤسسات التي ستنشأ لإدارة عملية البحث العلمي، وكفاءة القائمين عليها وشمول نظرتهم للعلم وقدراتهم في مجال تعبئة الطاقات العلمية، وحجم الميزانيات التي ستخصص للبحث العلمي.
ويتوقف نمو البحث العلمي في بلد ما على نوعية أعضاء المجتمع العلمي ذاته من ناحية ارتفاع مستوى التأهيل العلمي، وتكامل التخصصات العلمية والقدرة على تشكيل فرق بحثية متكاملة، والوعي بالعلم وأهميته، وتطبيق أخلاقيات البحث العلمي بكل صرامة، والقدرة على العمل للصالح العام، وتضييق نطاقات الخلافات المهنية، والاحتكام إلى تقاليد ممارسة البحث العلمي في البلاد العريقة في هذا المضمار.
غير أن ذلك يستدعي من النظام السياسي أن يولي الباحثين العلميين عناية خاصة، باعتبارهم نخبة تستطيع أن تلعب دوراً حاسماً في التقدم، لو أحسن إعدادهم وتوظيفهم للقيام بمهامهم. ومن هنا لابد من وضع سياسة قومية لإعداد الباحثين العلميين وتأهيلهم وإرسالهم في بعثات علمية للخارج، وتسهيل حضورهم للمؤتمرات العملية. وقبل ذلك كله، لابد من الارتفاع بالمستوى الاقتصادي للباحثين، وإعطائهم أجوراً ومرتبات عالية تكفل لهم التفرغ التام للبحث العلمي. كما أنه يمكن توفير احتياجاتهم الاجتماعية والثقافية لهم ولأسرهم بصورة متحضرة وكريمة، حتى تضمن انتماءهم بالكامل للمؤسسات العلمية التي يعملون فيها، وولاءهم للمشروع العلمي القومي.
ولابد من وضع سياسة علمية يشارك في وضعها القادة العلميون في مختلف التخصصات، ويمكن للباحثين العلميين من مختلف الأجيال مناقشتها قبل إقرارها بصورة ديمقراطية.
ويؤكد ذلك القرار الذي أصدره رئيس جمهورية مصر العربية محمد حسني مبارك مؤخراً بإنشاء مجلس أعلى للعلم والتكنولوجيا، يشارك في عضويته عدد من أبرز العلماء المصريين ذوي الشهرة العالمية، بالإضافة إلى خبراء مصريين مرموقين والوزراء المسؤولين في نفس الوقت. وهذا المجلس سيكون مسؤولاً عن رسم سياسة علمية لمصر تطبق في العقود القادمة.
وكل هذه اعتبارات أساسية تتعلق بمشكلات البحث العلمي في الوطن العربي، وهي التي يجب أن نوليها أعظم الاهتمام، لأن توفر القاعدة الصناعية في الوطن العربي، للتقدم في البحث العلمي شرط ضروري وإن لم يكن كافياً. ذلك أنه بغير توفير الشروط المؤسسية والفكرية والثقافية والعلمية والاقتصادية التي تكفل لأعضاء المجتمع العلمي أن يمارسوا الإبداع في مناخ حر، لا يمكننا في الوطن العربي أن نتقدم علمياً.