عندما تدفق السيل البشري الفلسطيني من غزة إلى مدينة رفح المصرية مع أول خيوط الضوء يوم الأربعاء 24 يناير الماضي، فتح المصريون أحضانهم بالمعنى الحرفي للكلمة لاستقبال الأشقاء. تسابقنا في القاهرة على التواصل مع منظمات الإغاثة، وراح كل منا يستعجل تحريك قوافل الإمدادات لتلبي احتياجات الضيوف القادمين عبر الحدود. لم يتوقف أحد في مصر للحظة للاعتراض على التفجيرات التي وقعت ذلك اليوم في ظلام الليل، وقبل انبلاج الصبح بسويعات، والتي عرضتها الفضائيات، وهي تعصف بالسياج الحدودي الحديدي بين غزة ومصر وتُلقي به على الأرض ليتحول إلى جسر تمر عليه الجموع الفلسطينية. قال الرئيس المصري كلمته مبكراً معبراً عن ملايين المصريين: "لن نسمح بتجويع الفلسطينيين". كان واقع الحال المصري رسمياً وشعبياً يقول للأخوة الفلسطينيين:"حسنا فعلتم إذ جئتم إلينا حيث يمكننا أن نوفر لكم الغذاء والدواء والوقود ونزودكم بما تحتاجون بعد أن تعرضتم للحصار الضاري من جانب سلطة الاحتلال، وبعد أن وصل الجرم الإسرائيلي إلى حد قطع الكهرباء عن المستشفيات وأجهزة التنفس الخاصة بالمرضى. لم يهتم أحد في مصر بالاعتراضات الإسرائيلية التي راحت تتصاعد وتتوالى ضد سماح مصر بتدفق مئات الألوف دون أي تدخل أمني أو محاولة لصد الجماهير. وكذلك مضى الشعور المصري المشحون بالعاطفة القومية في مساره مندفعاً إلى احتضان الضيوف في نطاق دائرة إدراك مصرية صافية وواضحة ترى في هذه الجموع الفلسطينية أخوة لهم حقوق على الشقيقة العربية الكبرى في إنهاء معاناتهم وحرمانهم. الغريب أن يتدخل بعد ثمان وأربعين ساعة صباح الجمعة 26 يناير تنظيم مسلح ربما يكون "حماس" أو غيرها ليحاول في حماقة وغياب للفطنة أن يوجه صدمة لمشاعر التعاطف المصرية، وأن يحول هذه المشاعر إلى مسار الحذر والغضب. فلقد ظهر أمام الكاميرات جمع من الملثمين يحملون الرشاشات ويطلقون الرصاص في الهواء في اتجاه جنود الأمن المصريين، بينما بولدوزر يتقدم ليهدم جزءاً جديداً من الجدار الحدودي في حين أمطر عشرات الشباب الفلسطينيين جنود مصر بالأحجار الخفيفة والثقيلة وهم واقفون في ثبات لا يردون ولا يتحركون، ويتلقون أحجار الحماقة على أبدانهم ورؤوسهم. في ذلك اليوم صدر بيان مصري يفيد أن ستة وثلاثين من ضباط وجنود الحدود المصريين نقلوا إلى المستشفيات وجراح بعضهم خطيرة. تُرى هل يمكن لأي عقل فلسطيني في قيادة "حماس" أو غيرها أن يرتب هذا السيناريو الأحمق، ويعمل على إخراجه أمام الكاميرات، أم أنه انعدام العقل وتصور خاطئ وفهم مخطئ لعاطفة الترحاب المصري ربما وصل إلى وهم أن اقتحام الحدود كان غزوة عسكرية مظفرة لفتح مصر، وليس قبولاً مصرياً إرادياً وطوعياً للاستضافة والقيام بواجب قومي. في نظر جموع المصريين وساستهم ومثقفيهم كان يستحيل قبول هذا السيناريو وما يبطنه من فهم معوج. وكم أحزنني شخصياً أن تتصاعد مخاوف مصرية من هذه الضيافة ومن نتائجها الوخيمة، وأن يستعيد البعض ذكريات الوجود الفلسطيني في عمّان الذي تحول إلى دولة داخل الدولة الأردنية ومثيله في لبنان. قلت لنفسي في اشمئزاز لقد نجحت الحماقة الثورية في اغتيال طهارة سيل التعاطف المصري الجارف مع الدافع الذي حدا بالألوف إلى اجتياز الحدود بحثاً عن الحاجات الأساسية. ومع الوقت بدأ الحديث في أوساط مصرية عديدة يأخذ طابعاً لغوياً مختلفاً عن لغة التعاطف وظهر الحس الوطني المصري والخوف على مصر من الفوضى ومن اندساس عناصر شبيهة بالملثمين تتسلل إلى المدن الواقعة في عمق مصر. لم تمض سوى ساعات حتى أعلنت جهات مصرية رسمية عن ضبط مسلحين فلسطينيين نجحوا في التسلل عبر قناة السويس إلى محافظات مصر الداخلية ووصل بعضهم إلى إحدى محافظات الصعيد، وهي بني سويف، وهم يحملون أحزمة ناسفة. مرة أخرى لعبت الحماقة الثورية سواء جاءت من صفوف "حماس" أو غيرها - فلا نعلم حتى الآن على وجه الدقة انتماء هؤلاء المسلحين - دورها في تحويل تيار التعاطف القومي في مصر مع الضيوف الفلسطينيين إلى تيار من الفزع على سلامة الأمن الداخلي وعلى أمن المواطنين والمرافق الحيوية. اليوم وقد عادت الجموع الفلسطينية بسلامة الله إلى غزة بعد أن تزودت بحاجاتها، ولم يبق في مصر سوى المسلحين الذين نجحوا في التسلل إلى داخل المدن والقرى. أقول إن على "حماس" والقيادات الثورية أن تعمل كل ما في وسعها لسحب من تسللوا قبل وقوعهم في أيدي الأمن المصري، لأن اكتشاف هؤلاء أو قيامهم بما ينال من أمن المصريين سيعني أن "حماس" قد نجحت في تحقيق ما فشلت فيه إسرائيل، وهو زرع الخوف من الفلسطينيين في مصر.