"سجال" حول المؤسسة الملكية في نيبال
أحد الزملاء، لفرط حماسه للأنظمة الجمهورية وتحفظاته على الأنظمة الملكية، لم ينتظر شروق شمس اليوم التالي لسماعه أخبار احتضار النظام الملكي في نيبال، فأرسل لي في أنصاف الليالي رسالة هاتفية قصيرة يطالبني فيها بالكتابة في الموضوع. هذا على الرغم من الشواهد الكثيرة، التي أثبتت أن الأنظمة الجمهورية التي قامت على أنقاض أنظمة ملكية، ولاسيما في العالم الثالث، لم تأت إلا بالخراب والدمار والهزائم وتفتيت أسس ومقومات الدولة والمجتمع المدنيين، فلا ديمقراطية أو حريات تعززت في ظلها، ولا تنمية تحققت أو معيشة تحسنت تحت قيادتها، بل إن بعض الأنظمة الجمهورية سرعان ما تحولت إلى أشباه ملكيات.
كل هذا لم يقنع صاحبنا بعد أن التسميات في أنظمة الحكم لا تعني شيئاً، وإنما المهم هو الجوهر والمضمون. فنظام ملكي يملك رؤية واضحة ويقوده ساسة عقلاء متعلمون خير ألف مرة من نظام جمهوري يعتمد في بقائه وشعبيته على الشعارات الرنانة ودغدغة عواطف الجماهير بالوعود المعسولة والخرافات والأساطير المنتقاة بعناية من بطون التاريخ.
مما لا شك فيه أن النظام الملكي في نيبال ليس نظاماً مثالياً، بل ارتكب، وخاصة في ظل الملك الحالي جيانيندرا– الذي وصل إلى العرش بعيد المذبحة التي لقي فيها شقيقه الملك بيريندرا وكافة أفراد أسرة الأخير حتفهم في يونيو 2001 - حماقات كثيرة، لعل أبرزها انقلابه في فبراير 2005 على المؤسسات الدستورية وقيامه بتعطيل الحقوق والحريات تحت ذريعة الدفاع عن أمن واستقرار البلاد في مواجهة التمرد المسلح الذي تقوده الجماعات الماوية منذ أوائل التسعينيات. غير أن البديل أسوأ بمئات المرات، خاصة حينما يكون هذا البديل هو نظام يقوده أو يسيطر عليه "الماويون" الذين صاروا حتى في بلد المنشأ (الصين) محاربين ومحل شك بسبب تاريخهم الدموي والعبثي في أي مكان وصل إليه نفوذهم. و"الماويون" النيباليون يحاولون اليوم بعدما فشلوا في استلام السلطة عن طريق الثورة المسلحة، الوثوب إليها عبر التكتيكات السياسية التي كان آخرها قبولهم باتفاقية سلام وتهدئة. وهذه الاتفاقية التي وقعت في العام الماضي تحت رعاية الأمم المتحدة وشارك فيها تحالف سياسي يضم سبعة أحزاب معارضة من بينها حزب البلاد الأقدم والأكبر (حزب المؤتمر) بقيادة رئيس الحكومة الحالي "جيريجا براساد كويرالا" (86 عاماً)، نص على إجراء انتخابات تشريعية في يونيو من العام الجاري بغية قيام برلمان جديد توكل إليه مهمة كتابة دستور جديد لنيبال بدلاً من الدستور المؤقت الحالي والبرلمان الانتقالي الراهن المكون من 330 عضواً بمن فيهم أعضاء يمثلون المتمردين "الماويين". ومن الأمور الأخرى التي نصت عليها الاتفاقية تسليم المتمردين "الماويين" كامل أسلحتهم إلى بعثة الأمم المتحدة في نيبال، الأمر الذي لم يتحقق بالكامل حتى الآن طبقاً لمصادر إعلامية مستقلة، وبالتالي أشاع الشك والريبة في نفوس قادة الأحزاب السياسية مما ينوي حليفهم الماوي فعله في القادم من الأيام.
وفي يناير 2007، حينما كانت مسألة وضع دستور انتقالي محل نقاش وحديث في البرلمان المؤقت، اقترح وضع مادة تنص على أن يبحث مصير المؤسسة الملكية النيبالية، إلغاء أو إبقاء، في أول اجتماع يعقده البرلمان المنتخب. ومنذ ذلك التاريخ، طرحت اقتراحات أخرى عديدة لعل أحدثها ما طرح في ديسمبر 2007، ونعني به مشرع القانون القاضي بإلغاء الملكية وإعلان البلاد فوراً جمهورية ديمقراطية فيدرالية (يبدو أن النص على الفيدرالية جاء تهدئة لخواطر المتمردين الجدد من أبناء إقليم "تيراي" الجنوبي المحاذي لحدود البلاد مع الهند، والذين انتفضوا اعتداء على الشرطة والممتلكات العامة بدعوى عدم تمثيلهم في البرلمان الانتقالي بصورة تتناسب مع أعدادهم، وخلو الدستور المؤقت من أية إشارة تضمن لهم حكماً ذاتياً). وهذا ما أثار جدلاً دستورياً لم ينته بعد، مفاده كيف لهيئة غير منتخبة أن تتخذ قراراً مصيرياً كهذا، ولا تترك للبرلمان المفترض انتخابه ديمقراطياً في وقت لاحق سوى تنفيذ القرار فقط؟ وهذا أيضاً ما دعا بعض الفقهاء الدستوريين إلى اقتراح عمل استفتاء شعبي حول مصير المؤسسة الملكية طالما أن الأخيرة مؤسسة راسخة الجذور في تاريخ البلاد، ولها من العمر عدة قرون، فضلاً عما تمثله من رمز للوحدة الوطنية.
أما الأمر اللافت للانتباه، فقد كان هدوء الشارع النيبالي بعيد صدور هذا القرار، إذ لم تخرج الجماهير إلى الشارع مثلما توقع المتمردون "الماويون" للاحتفال بما وصفوه بالإنجاز التاريخي الذي لعبوا فيه (أي الماويون) دوراً رئيساً. وبالمثل فإن أنصار الملكية الذين لا يمكن الاستخفاف بعددهم من بين عدد السكان البالغ 25 مليون نسمة - نحو نصفهم من الأميين الذين لا يحصلون إلا على أقل من دولار في اليوم الواحد – لم يُسمع لهم احتجاج أو مظاهرة.
في تفسير الأمر الأول، قيل إن خصوم الملكية لم يعبروا عن فرحتهم لأنهم كانوا يتوقعون الحسم بطريقة أخرى، مثل اعتقال الملك جيانيندرا ونفيه أو محاكمته، بدلاً من تركه يتمتع برفاهية قصر "نارايان هيتي" الملكي تحت حراسة أكثر من 3000 جندي من الجيش النيبالي، وبحرية الحركة وتبادل الزيارات واستقبال الأنصار، بل والحصول أيضاً على المخصصات المالية والامتيازات الأخرى إلى حين قيام البرلمان المنتخب وتنفيذ الأخير لقرار إلغاء الملكية المتخذ مؤخراً. وفي هذا السياق وصفت صحيفة "جاناديشا" القريبة من "الماويين" الوضع بورقة شجرة، لا هي على الأغصان، ولا هي حطت على الأرض بعد.
أما الأمر الثاني فقد تم تفسيره كما يلي: إن أنصار الملكية، رغم قلقهم على مصير المؤسسة الملكية، ولا سيما بعد تصريح رئيس الحكومة "كويرالا" في مارس الماضي علناً بأنه يفضل أن يتنازل عاهل البلاد عن العرش ويأخذ معه أيضا ولي عهده (المعروف بالإفراط في شرب الخمور والعصبية) ليفتح الطريق أمام تسمية أصغر أبناء الملك البالغ من العمر خمس سنوات ملكاً جديداً مع مجلس وصاية، فإنهم لا يزالون مقتنعين أن الملكية لن تزول لارتباطها بالهندوسية - عقيدة الغالبية العظمى من النيباليين – ولأن الملك تجسيد للإله الهندوسي فيشنو- هذا ناهيك عن رهانهم على جملة من الأمور التي قد تصب في صالح استمرار المؤسسة الملكية مثل سقوط تحالف أحزاب المعارضة الهش، أو صعوبة إجراء الانتخابات التشريعية المقررة لأسباب فنية، أو اتساع المخاوف، مما يخفيه "الماويون" من أجندات مدمرة، أو سقوط حكومة "جيريجا" الحالية تحت ضغط الفشل في علاج الملفات الخدمية والمعيشية والأمنية، أو قيام الجيش النيبالي بانقلاب عسكري لصالح العرش، انطلاقاً مما عرف عنه من ولاء للمؤسسة الملكية على نحو ما ثبت في عام 1960 ولاحقاً في عام 2005 ، غير أنه من الجدير بالذكر في هذا السياق أن اتفاقية السلام والتهدئة المشار إليها آنفا وما تبعها من إجراءات عملية فككت علاقة الجيش بالملك ليصير اسمه "الجيش الوطني النيبالي" بدلاً من "الجيش الملكي النيبالي" ولتؤول قيادته العليا إلى رئيس الوزراء المدني بدلاً من الملك. ورغم التصريحات المتكررة لقائده الحالي الجنرال "كاتاوالا"، الذي يقود نحو مئة ألف عنصر مدرب تدريباً عالياً، بأن مؤسسة الجيش غير معنية بالسياسة، وخاضعة لأوامر رئيس الحكومة وحده، فإن احتمالات قيامه بانقلاب واردة وخاصة إذا ما أسفرت التطورات عن وصول "الماويين" عبر صناديق الاقتراع إلى السلطة لإقامة نظام راديكالي قمعي. حينها قد لا يجد الجنرال كاتاوالا – وهو بالمناسبة زميل دراسة لقائد آخر الانقلابات العسكرية في باكستان (الجنرال برويز مشرف) مفراً من تنفيذ انقلاب على شاكلة انقلاب تايلاند العسكري عام 2006، أو ربما على شاكلة التدخل الذي قام به الجيش في بنجلاديش في يناير 2007 حينما طالب قادته رئيس الجمهورية بإعلان حالة الطوارئ وتأجيل الاستحقاقات الانتخابية قبل أيام من موعدها.
إن السؤال الذي يتردد بقوة هو: ماذا سيكون موقف نيودلهي وواشنطن من هكذا سيناريوهات؟ ثم كيف ستتصرف جارة نيبال الكبيرة الأخرى أي الصين؟ وما مدى تدخل هذه الأطراف في كل التطورات التي استعرضناها في هذه البلاد الفقيرة والمعزولة، لكن ذات التأثير في أوضاع منطقة جنوب آسيا، وتحديداً لجهة العلاقات بين العملاقين الهندي والصيني. ولعله انطلاقا من هذه الحقيقة، قيل إن زيارة رئيس الحكومة الهندية "منموهان سينج" الأخيرة إلى بكين لئن كان أحد دوافعها بحث التعاون التجاري والاقتصادي المضطرد ما بين البلدين، فإن الدافع الآخر كان بحث التطورات في نيبال.
يتهم المتمردون "الماويون" كل الأحزاب السبعة المتحالفة معهم بالارتباط بقوى أجنبية ذات نفوذ. أي أنهم وحدهم الوطنيون الشرفاء. ويشيرون تحديداً إلى ارتباط أحزاب كثيرة بالهند وإجرائها مشاورات دائمة مع السفارة الهندية أو كبار المسؤولين الهنود الزائرين، الذين كان آخرهم مستشار الأمن القومي الهندي أو رئيس الجهاز الحساس غير الخاضع للمساءلة البرلمانية في نيودلهي. والمعروف أن نيودلهي وواشنطن لهما موقف مشترك مما يجري في نيبال، وبعبارة أخرى فهما يدعمان الملكية الدستورية والديمقراطية التعددية، وبالتالي يعملان على مخرج لإنقاذ الملكية باعتبارها صمام أمان وعملا مانعا للتفتت والانقسام الإثني، وإن قالا إن الموضوع شأن داخلي وقرار الإبقاء على الملكية أو إلغائها متوقف على النيباليين.
أما بكين التي تتصادم مصالحها الاستراتيجية مع نيودلهي في نيبال كما هي متصادمة في بورما، فقد أعربت في بيان عن ترحيبها باتفاقية السلام في نيبال وقالت إنها تدعم أي جهد يساهم في الاستقرار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. عبدالله المدني
محاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين.
البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh