إيران... الأدوار الجديدة والعلاقات مع العرب
في الوقت الذي كان فيه المسؤولون الإيرانيون يصرحون لوسائل الإعلام أثناء خروجهم من مجلس الرئيس محمد حسني مبارك بالقاهرة، كان المسؤولون الأميركيون يصرحون أن هناك جولة جديدة من المحادثات بينهم وبين الإيرانيين بشأن العراق ستبدأ اجتماعاتها قريباً في بغداد.
في الظاهر، ليس هناك فرق في الحركة الإيرانية قبل عام، ومثيلتها الآن، فقد سبق لمسؤولين إيرانيين كبار أن زاروا القاهرة من قبل، والتقى وزير الخارجية المصري بزميله الإيراني مراراً خارج مصر. وفي المرات كلها كان حديث استعادة العلاقات الدبلوماسية هو المعلن، بل واجتماع الإيرانيين مع الأميركيين بشأن العراق، يتكرر منذ أكثر من عام. لكن الواقع أن التحرك الإيراني الأخير، والذي بدأ بحضور الرئيس الإيراني لقمة مجلس التعاون الخليجي بالدوحة بقطر، ليس استمراراً للتحركات السابقة بل يأتي في سياق مستجدات ومتغيرات. فالمعروف أن الأجهزة الاستخباراتية الأميركية أعلنت عن توقف البرنامج الإيراني للتسلح النووي عام 2003، وبالتالي ليست هناك ضرورة ملحة لمهاجمة إيران، وإنما المطلوب استمرار الضغط لإيقاف التخصيب الذي يتضمن احتمالات خطيرة إذا تطور. وبعد هذا الإعلان حدث أمران مهمان: مؤتمر أنابوليس، وزيارة الرئيس بوش للمنطقة. وهذان الأمران المتعلقان بالتسوية من جهة، وبالأمن والاستقرار بالمنطقة من جهة أخرى، يدعمان الانطباع الذي ساد بعد الأجزاء التي نُشرت من تقرير الاستخبارات الأميركية: لا حرب في المنطقة، أو لا حرب كبرى في المدى المنظور أي خلال عام 2008، العام الأخير في إدارة بوش.
وهكذا كان على السياسة الخارجية الإيرانية أن تسير في أحد اتجاهين: اتجاه استمرار التصعيد، باعتبار أن الأميركيين والإسرائيليين ما زالوا يهددونها، أو اتجاه التهدئة والطمأنينة لدول الجوار العربي، بعد أن حفلت الزيارات الإيرانية طوال السنوات الماضية بالتحذير من التحالف مع الولايات المتحدة ضد إيران. والذي يبدو من التحرك الإيراني الجديد أن الإيرانيين قرروا السير في خط متعرج بين الاتجاهين المفترضين. فقد بقي خطابهم تجاه الولايات المتحدة عالي الوتيرة، رغم المقاربة الأميركية الجديدة ذات المعالم الاستيعابية، في حين تكثفت الزيارات الإيرانية باتجاه الخليج ومصر للطمأنة وسد الذرائع وإظهار استعداد إيران للتضامن والمشاركة في تحقيق المصالح المشتركة، مع التنديد المستمر بالسياسات الأميركية العامة، وبمؤامرة "التسوية" التي تتضمن "تهويد" فلسطين، ومحاصرة غزة، وإدخال المنطقة في سباق للتسلح!
تتميز المقاربة الإيرانية الجديدة بالانتقال من خطاب التحدي إلى خطاب الثقة والاطمئنان والكلام غير المباشر لكن المفهوم عن الانتصار الذي تحقق. والانتصار المقصود هو حرب صيف عام 2006 والتي كانت لها دلالاتها الاستراتيجية لدى العرب والمسلمين، وكانت لها دلالاتها "النفسية" والشعورية لدى شيعة العالم العربي خاصة. فالشيعة العرب الذين تحرك لديهم وعي معين نتيجة سقوط نظام صدام حسين ووراثتهم له بتسليم أميركي، صار لديهم وعي شديد الفخار بعد حرب تموز التي حدثت في مواجهة إسرائيل ومواجهة الولايات المتحدة. صحيح أن أحداً من الشيعة -حتى الموالين للنظام الإيراني- لا يستطيع الدعوة لاستبدال النظام السياسي في العراق أو لبنان أو البحرين بنظام ولاية الفقيه، لكن هذا الإحساس الذاتي بالماهية والدور، جعل منهم، ومن إيران ولية الأمر والنهي، شريكين في كل ما يجري مما يتصل بالأوطان التي يشكلون جزءاً من تركيبتها. وإيران تطمئن العرب إلى أنها لا تقبل النزاع الشيعي -السني، لكنها لا توافق على التدخل في التفاصيل المتعلقة بالحقوق والواجبات والحصص داخل المجتمعات والأنظمة بحجة أن ذلك شأن الشيعة العرب أنفسهم. وهذا الخطاب لم يتغير في المرحلة الجديدة من التحرك الإيراني بالمنطقة العربية.
وبالإضافة لذلك ما تزال إيران مُصرة على عدم العودة لآلية دول الجوار في الشأن العراقي، فهي تتحدث مع الولايات المتحدة، وهي تتحدث مع تركيا باعتبار الاشتراك في الاهتمام بالملف الكردي، ولديها جيشها الخاص (جيش القدس) بالداخل العراقي، كما لديها ولاء الحزبين الشيعيين الكبيرين الحاكمين: "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" و"حزب الدعوة الإسلامية". وقد أقلقتها بعض الشيء تكتيكات الأميركيين في مسألة الصحوات السنية، لكنها اطمأنت بعض الشيء أخيراً نتيجة الهجمات المتلاحقة على مواطن الصحوات والتي تُتهم بها "القاعدة"، بينما لا يعرف أحد في الحقيقة من يقوم بالكثير منها.
أما الأمر الوحيد الذي تقبل إيران في هذه المرحلة الحديث فيه مع العرب بالتفصيل فهو "الشيعية السياسية" التي استحدثتها مع "حماس" في فلسطين، وشارك فيها باسمها أيضاً "حزب الله" والنظام السوري، ومطلبها في مقابل التعامل أو الانسحاب التدريجي، أن تسوى مسألة "حماس" من جانب السعودية ومصر وباستيعاب سوريا وليس بعزلها. وإذا حدث هذا الأمر بما يرضي "حماس"، ويضمن "استمرار الكفاح من أجل التحرير"، فإن إيران مستعدة للضغط على "حماس" وعلى سوريا، بل وإسقاط "الواجب الجهادي" عن كاهل "حزب الله"، بما يساعد على الاستقرار في لبنان أيضاً.
وتبقى الورقة الإيرانية- السورية شائكة ومتشابكة، فالذي حل محل السوريين في لبنان هم الإيرانيون و"حزب الله" وليس أي طرف آخر. وقد توثقت العلاقات من جديد خلال حرب تموز 2006 وما بعدها، وهي علاقات قائمة على المزايدة، وليس على التخطيط المشترك والتنفيذ المشترك. فإذا قال السوريون إنهم سيسيرون في هذا الاتجاه ميلاً قال "حزب الله" إنه سيسير عشرة أميال، والعكس بالعكس. والواضح منذ مدة أن "حزب الله" مأمور من إيران بتغطية التحركات السورية في لبنان، والنطق بمطالبها كأنها مطالبه، رغم اختلاف الأولويات لديهما. والجميع يعرف أن العلاقات الإيرانية السورية ما كانت تقتصر على لبنان، لكن الاهتمامات السورية أو الإمكانيات السورية تقلصت في العامين الأخيرين، بحيث ما عادوا يطمحون إلى النفوذ في غير لبنان، وقد كان التكتيك الغربي والعربي حتى خريف عام 2007 يقوم على محاولة فصل سوريا عن إيران، وهو لم ينجح، لأن السوريين ما عادوا يملكون ما يؤثرون فيه إلا لبنان، ومن خلال قوة "حزب الله"، وموافقة إيران. والتكتيك الجديد لدى الغرب والعرب التعامل مع إيران (دون النظام السوري) بطريقة استيعابية أو تفاوضية تتضمن الاتفاق والاختلاف واستمرار النقاش. وليس هناك ما يمكن قوله بحسم عن المستقبل القريب بهذا الشأن، وهل تستمر شراكة سوريا- "حزب الله" في لبنان، أو يقرر الإيرانيون الاستغناء عن سوريا في لبنان أيضاً؟! فسوريا تتحول إلى عبء على الإيرانيين مادياً وسياسياً، وكذلك ملفات أخرى في العراق وفلسطين ولبنان. لكن الإيرانيين لا يستطيعون تجاهل الجوار العراقي مهما بلغت صعوباتهم هناك، بينما يمكن لـ"حزب الله" أن يستمر مستقلاً عن سوريا في لبنان، لكن إذا أسقط الولي الفقيه عن كاهله المهمات الإقليمية تجاه الفلسطينيين، وتجاه الشيعة العرب.
تدخل السياسة الخارجية الإيرانية إذن تجاه المنطقة العربية وتجاه الخليج مرحلة جديدة أكثر هدوءاً. لكن لما لم يفد العرب من حقبة الهياج الإيراني والصراع مع الولايات المتحدة، بل تضرروا وتضرر استقرارهم، وانقسمت بعض مجتمعاتهم، فكذلك لن يفيدوا كثيراً من مرحلة الثقة والتهدئة، فالملفات القديمة العالقة ترفض إيران الدخول في الحديث بشأنها، والملفات الجديدة تعتقد إيران أنها قد كسبتها بشق النفس، ولم يحن أوان الانسحاب الممكن منها لتخفيف الأعباء. وسيظل العرب يشكون من دورها بالعراق، وتُحيل هي على الأميركيين. وسيظلون يشكون لديها سوريا وتحيلهم هي على سوريا للحديث معها مباشرة، ومع الولايات المتحدة ما نضجت التسوية بعد. لذا فبعد شهور مقبلة من التحركات ستعود الشكوى للتصاعد، فالمسألة مع إيران كما قال الشاعر الفارسي العظيم حافظ الشيرازي: ألا أيها الساقي / أدر كأساً وناولها
بدأ الحب جميلاً / ثم ظهرت المشاكل.