خسرت فلسطين وقضيتها وثورتها وشعبها جورج حبش القائد والثائر والحكيم، بعد جهاد ونضال طويلين وصراع مرير مع المرض. تغيرت أمور كثيرة ووقائع ومعادلات، وكانت تقلبات وخيبات منذ انطلاق ثورته حتى وفاته، لكنه لم يتغير إيماناً وصلابة وقناعة ونزاهة وأخلاقاً. انكفأ منذ فترة طويلة نسبياً عن العمل اليومي المباشر، لكنه لم ينكفئ عن المتابعة وشد العزيمة، والتأكيد على روح المقاومة ضد الاحتلال، وعلى التواصل مع رفاقه وإخوانه حتى رحل عنهم وعنّا بصمت. تألمت كثيراً عندما سمعت نبأ وفاته. والنبأ كان منتظراً منذ مدة نظراً لتدهور حالته الصحية، والموت في النهاية حق ينتظرنا استحقاقه، لكن جورج حبش هو جورج حبش؛ شخصية استثنائية في تاريخ قضيتنا وأمتنا. ما قبله ومعه شيء وما بعده ومن دونه شيء آخر. وليس أمراً عادياً في تاريخ الشعوب والأمم أن تجد قادة من أمثاله في فترات زمنية قصيرة. تألمت لغيابه وتألمت لواقعنا. نحن الجيل الذي تربى على القضية الفلسطينية وعاشت فيه، وتكوّن وعينا السياسي وأمامنا جورج حبش وجبهته ومقاومته وثورته، فرافقناه في محطات كثيرة. من الطبيعي أن نتألم لغيابه، لكن أكثر ما آلمني هو واقعنا اليوم البعيد كل البعد عما أراده ذلك القائد لشعبه وقضيته ووطنه وأمته، ولنا كمؤمنين بها وبالصراع ضد الاحتلال الإرهابي الإسرائيلي. نعم، غاب جورج حبش وكاد خبر غيابه يكون خبراً عادياً في وسائل إعلامنا وفي حضورنا السياسي، بل كان كذلك وللأسف. غاب جورج حبش وكثيرون لم يشعروا بأن شيئاً تغير. كثيرون غرقوا في خلافاتهم الداخلية وأخذتهم أحقادهم وحساباتهم في لبنان وفلسطين حتى نسوا إلى حدود بعيدة القضية ورموزها، وعلى رأسهم هذا القائد التاريخي الاستثنائي. نعم، بكل شجاعة أدبية وألم، أقول هذا ما شعرت به عند غياب الحكيم. نحن في لبنان قوى أساسية كنا في خندق واحد، جمعتنا فلسطين أصبح بعضنا في خنادق مختلفة، بل أصبحت خنادقنا السياسية متقابلة وضاعت بينها القضايا الكبرى والأساسية من لقمة عيش الناس وآلامهم ومعاناتهم، إلى الإنجازات الوطنية، إلى فلسطين. غاب الحكيم، في لحظة غياب الحكمة. توتر وغضب وحقد في الشارع. اتهام وتخوين وتشكيك وتهديد ووعيد وانقسام خطير بين الناس. وشهداء فقراء مساكين يسقطون في غير موقعهم، هم جمهور المقاومة، والجيش جيش حمايتها وشريكها وأبناؤه فقراء من الجمهور ذاته. والآخرون هنا وهناك فقراء أيضاً، وأبناء القضية الوطنية اللبنانية ضد إسرائيل، وأبناء القضية العربية الفلسطينية أيضاً ضد إسرائيل. الكل أخذتهم انفعالاتهم وعواطفهم وغرائزهم، وبات الخطر يهدد الجميع في كل مكان، ولا مكان للحكمة والحكماء. لا تواصل، لا حوار، لا اتصال، لا قنوات مفتوحة، لا عمل للملمة صفوف وتضميد جراح. والخوف أينما كان، دون ادعاء ودون مكابرة. ليس هذا هو المشهد الذي كان يريده جورج حبش، والذي تستحقه قضيته قضيتنا، لقد شغلنا هذا الواقع أحياناً عن فلسطين، وعدوها عدونا، وعن القيام بالواجب الذي يستحقه هذا القائد التاريخي من تكريم، واستذكار وتعميم لتجربته وفكره على مستوى الجيل الجديد. صحيح أن "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي أسّسها وولدت في ظروف دولية وإقليمية وفي ظل معادلات وموجات فكرية، إنْ صح التعبير، هي إلى تراجع اليوم على كل المستويات. لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر الدور المؤسس لجورج حبش على مستوى الفكر المقاوم لإسرائيل، وعلى مستوى ممارسة المقاومة بالفعل على الأرض، وما حققه من خطوات أدت إلى إبراز حق الشعب الفلسطيني في الكفاح والنضال من أجل استعادة أرضه. اختلف كثيرون معه، وهذا أمر طبيعي، وما أقوله هنا ليس من باب التوافق معه عل كل شيء فكرياً وسياسياً، لكن من باب الالتزام الواحد بالقضية الواحدة وحق الشعب الواحد. فلسطين اليوم تودع جورج حبش وهي ليست بأفضل حال؛ "الجبهة الشعبية" تراجع دورها، لكنها لا تزال موجودة رغم وجود قائدها المناضل أحمد سعدات في السجن الإسرائيلي مع عدد من كوادرها. ولا يزال رفاق جورج حبش على التزامهم، لكن تأثيرهم في مركز القرار لم يعد كما كان نظراً لتغير المعادلات، وحضور الحركات الجديدة التي لم تكن موجودة أيام الحكيم. حركة "فتح" إلى تراجع، والسلطة في مأزق. و"حماس" هي في المقدمة وإلى جانبها "الجهاد الإسلامي"، لم يكن ذلك يشكل قلقاً من حيث المبدأ للحكيم، ولكن الخطر هو في التقاتل الداخلي، وفي الجموح والجنوح نحو السيطرة بأي ثمن، وعن أي طريق، وبأية وسيلة، وفي الابتعاد عن الحد الأدنى- أحياناً- عن استقلالية القرار الفلسطيني. فالمشهد في الداخل ليس مريحاً؛ إسرائيل تقتل وتُهجّر، وتُدمّر وتُجوّع، وتُقطع الأوصال، وتسجن الناس وتذلهم وتصادر الأراضي ولم يتغير شيء في سلوكها واستراتيجيتها، وهذا ما كان يدركه الحكيم جورج حبش، لكن أشياء كثيرة تغيرت في صفوف القيادة الفلسطينية والممارسة السياسية بعد غياب الكبار، ولذلك فإن الانقسام الخطير والممارسات التي لا تعبر عن حكمة في إدارة الصراع مع إسرائيل من قبل هذا الفصيل أو ذاك، إنما يشكل خدمة بطريقة أو بأخرى للعدو، فكيف إذا كان الواقع العربي أكثر ألماً وانقساماً مما كان عليه، وتأثيرات ذلك أكثر خطورة على القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، مع ثبات في السياسة الأميركية، التي قاومها جورج حبش، ثبات على دعم الإرهاب الإسرائيلي المفتوح. في غياب الحكيم الفلسطيني، يجب ألا تغيب الحكمة عنا وعن قادتنا، بل العبرة في أن نستمد من تجربته، وتجربة القادة الكبار في صفوف الشعب الفلسطيني، المعرفة والخبرة والقوة والإيمان والصلابة، لأن مسيرة تثبيت الحق الفلسطيني لا تزال طويلة وشاقة، وضمان النجاح فيها وحدة الشعب والقيادة على تنوع الأفكار والأيديولوجيات.