تحتفي الأوساط الثقافية والفكرية الحصيفة، بمرور أربعمائة عام على ولادة الأثر الثقافي العالمي-الإسباني الموسوم بـ"دون كيشوت" لكاتبه Cervances Saavedra. ولعل جلّ قراء العالم الذين يسعون إلى اختزان الثقافة العالمية ذات الأثر العميق في وعيهم وذائقتهم، قد قرأوا هذا الأثر أو قرأوا عنه. ويتضح هذا الكلام، إذا وضعنا يدنا على ما يعتبره كثير من مؤرّخي الأدب والثقافة والتطور الاجتماعي في التاريخ الأوروبي، المعْلم الحاسم في ما قدمه "سرفانس سافِدرا" في عمله المرموق. أما هذا المعْلم، فيتحدد في السخرية العميقة اللاذعة من الفئات والأفراد، الذين يتحاشون الاعتراف بتغيّر المجتمعات، ومن ثم الإقرار بضرورة الكشف عن قواعد وآليات الاستجابة لمقتضيات هذا التغير واستحقاقاته. وهؤلاء يقعون في النزعة الأصولية الماضوية (النّوسْتالجي)، القائمة على التعلق بالماضي على نحوٍ ماضوي. أما هذا النحو، فيرفض الإقرار بالجديد، ليتمسك بالماضي بكيفية تثير الحنين والأسى، وتخلق الانقسام في الشخصية عبر إيصالها إلى الاستراتيجية الحاسمة والقائلة بأن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف، بل الدّاعية كذلك -لدى مجموعات من المتشدّدين الصّارمين في انغلاقهم على الماضي وفي عدائهم للحاضر- إلى استباحة الآخر. وإذا وضعنا في الاعتبار أن أشخاصاً من ذلك النمط غالباً ما يقعون في إشكالات مع الآخرين، فإننا نلاحظ أنهم يصيبونهم، ويصابون هم بأمراض نفسية واجتماعية مثل الهوس والشعور بالتحفز والاستفزاز، أو بالقنوط والسلبية والرغبة في الإنكفاء والإنزواء، أو بالرغبة في قتال من يعتبرونه سبباً في نشأة الجديد (البدعة والابتداع) وفي "الخروج" من عالم السعادة. وقد ولّد هذا تصورات ذهنية من أنماط مختلفة، مثل "سِفر الخروج" و"الخروج من الفردوس المفقود" و"الخروج من الإسلام الباكر" و"الدخول في الجاهلية الثانية"...إلخ. ها هنا، في تلك السلسلة التراجعية من المسار التاريخي العكسي، نواجه ما رغب مؤلِّف (دون كيشوت) في أن يثيره، ويجعله مدعاة لما اعتبرناه سخرية عميقة لاذعة من سلوك بطله هذا. فهذا البطل لن يتساهل أبداً مع كل ما قد يسعى إلى إخراجه من عالمه إلى عالم آخر، يؤرق حياته بكل جديد وطريف. فحميمية عالمه، التي عاش في كنفها، تنزلق من يديه أو لعلها انزلقت، ولكنه هو لا ولن يعتبر ذلك "أمراً واقعاً" عليه الإقرار به، وقد قرّر، بحسم، أن يواجه ذلك، حتى بـ"السلاح". وحيث وصل "دون كيشوت" إلى تلك النتيجة، فقد كان عليه أن يستعين بخادمه (سانشو بانسا)، فهذا خادم وفيٌ، ويحب سيده، في السرّاء والضرّاء. وكان ذلك، في التحليل السوسيوثقافي والاقتصادي التاريخي، بمثابة ردٍ حاسم على التحولات التاريخية الكبرى، التي أخذت تجتاح إسبانيا وبلداناً أوروبية أخرى باتجاه التأسيس لنمط الإنتاج الرأسمالي والعلاقات الرأسمالية على أنقاض نمط الإنتاج الإقطاعي والعلاقات الإقطاعية. وفي سياق المعارك والسجالات بين القديم السائر في طريق الاستنفاد التاريخي والجديد المتجه إلى امتلاك الشرعية التاريخية والمعرفية والأخلاقية، كانت شخصية "دون كيشوت" تبلور بصيغة الإنزواء عن التاريخ تحت وقع تلك التحولات. ولما كان من معطيات التاريخ السياسي والأيديولوجي ألا يُخلي القديم مواقعه للجديد إلا بشقّ النفس وتحت القبضة غالباً، فقد وجد الرجل المأساوي نفسه (أي دون كيشوت) واقعاً في مأزق تاريخي كبير: إنه يفقد مكانه، ولا يجد موطئ قدم له في النظام الجديد، أو يرفض هو الاندماج فيه. وهنا تنشأ المفارقات المرّة، حيث يسعى إلى مقاتلة ذلك النظام بسيوف خشبية، بعد أن افتقد طاقته التاريخية، وذلك بصيغة طواحين هوائية يحسبها هي الهدف. وإذا كان للمفكر والباحث والقارئ العربي أن يستبطن ذلك المسار التاريخي الأوروبي الحديث، وأن يقرأه في ضوء من النُّظم السياسية العربية القائمة من استحقاقات الإصلاح والتغيير والتحديث الديمقراطي، فإن هؤلاء يجدون أنفسهم أمام الخيار القاطع الذي تطرحه هذه النُّظم، أو يطرحه معظمها: لا للتفريط بالماضي ولا بالحاضر، ولكن إنتاج توليفة بينهما، تنطلق من مماثلتها بمبدأ خلْط الزيت بالماء، حيث يبقى الزيت زيتاً ويبقى الماء ماء. كيف ذلك؟ هذا أمر يستحق العودة إليه.