لا يشك أي من خبراء العلاقات الدولية، وخصوصاً المعنيين منهم بتطور هيكل النظام العالمي، في أن عام 2008 سيكون ساخناً على صعيد العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة. فقد انتهى عام 2007 فيما الخلافات التي تصاعدت خلاله على حالها. كان ذلك العام نقطة تحول رئيسية في مسار العلاقات الأميركية -الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق. أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إشارة التحول الواضحة في خطابه، الذي صار مشهوراً، أمام مؤتمر الأمن الذي عُقد في ميونيخ في فبراير 2007. فقد شن هجوماً حاداً على السياسة الأميركية، واتهمها بجر العالم إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار، وحمّلها المسؤولية عن تفجير الأزمات الإقليمية، وأكد أن سياسة القطب الأحادي أثبتت عجزها وفشلها وخطرها على العالم. وكانت بوادر هذا التمرد قد بدأت قبل سنوات، عندما سعى بوتين في فترة رئاسته الأولى في مطلع الألفية الثالثة إلى مراجعة بعض جوانب علاقات بلاده مع واشنطن في ظل نمط للشراكة لم يرُقْ له منذ البداية، فحاول تغييره تدريجياً من دون مواجهة أو تصعيد. غير أن محاولته باءت بالفشل عندما تبين له أن طريقة إدارة واشنطن للعلاقة مع بلاده غير قابلة للتغيير من دون مواجهة. والأرجح أنه خلص إلى ذلك بشكل نهائي عندما أصر الأميركيون على خطة "الدرع الصاروخية". وينظر الاستراتيجيون الروس إلى هذه الخطة باعتبارها تهديداً خطيراً ومباشراً لأمن بلادهم، فضلاً عن تأثيرها على توازن القوى الاستراتيجي. ولذلك كان ضروريا أن ترد موسكو على هذه الخطة عملياً، وليس فقط كلامياً. وهنا، تحديداً، انتقلت الخلافات الروسية –الأميركية إلى مرحلة المواجهة، التي لوح بها الرئيس بوتين في مؤتمر ميونيخ، أملاً في استجابة أميركية لم تحدث. فقد بدد الرئيس بوش فرصة القمة الأميركية الروسية التي عقدت في المقر الصيفي لعائلته بولاية مين في أول يوليو 2007. وكانت هذه القمة هي الأولى بعد أن أوضح بوتين بجلاء عدم استعداد بلاده لمواصلة علاقة صارت تهدد أمنها بعد أن نالت من كبريائها. وذهب إلى منتجع عائلة بوش حاملاً مواقف صلبة تجاه القضايا الخلافية الرئيسية. واستبق القمة بإشارات سياسية مباشرة وأخرى رمزية حملت معنى عدم الرضا عن نوع العلاقة مع واشنطن. غير أن الرئيس بوش لم يعن بما أزعج بوتين في زيارته الثالثة تلك إلى الولايات المتحدة. فما كان من الرئيس الروسي إلا أن شمر عن ساعديه، وأكد مضيه قدماً في المواقف التي يعتبرها رداً أولياً على الاستهانة الأميركية، وأهمها الانسحاب من معاهدة خفض الأسلحة التقليدية التي تقول موسكو إنها قيدت حركتها لفترة طويلة. كما شرعت موسكو في حركة نشطة لتحديث قواتها التقليدية والاستراتيجية، وأعادت العمل ببعض تقاليد الحقبة السوفييتية؛ مثل تسيير دوريات قاذفاتها الاستراتيجية في أجواء المحيطات العالمية، وتسيير غواصاتها وسفنها الحربية في بحار العالم. وفي جعبة موسكو إجراءات أخرى تستطيع اتخاذها، وتلوح بها للانسحاب من معاهدات دولية أخرى يعتبرها الروس مقيدة بدورها لقدراتهم الدفاعية، مثل معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وإعادة إنتاج أجيال جديدة من هذه الصواريخ. وقد شرع الروس، بالفعل خلال العام الأول للمواجهة مع واشنطن (2007)، في خطة شاملة لتحديث أنظمة الدفاع الجوي. وستتواصل هذه الخطة في العام الجاري، إلى أن تبلغ ذروتها في العام القادم وفق التوقعات. وواكبت ذلك تجارب لتطوير الصواريخ الاستراتيجية الروسية، مثل الصاروخ الباليستي طراز (آر اس إم-54) المجهز برأس مدمر جديد دخل الخدمة العسكرية للمرة الأولى عام 2006. كما تم تجهيز القوات البرية بصواريخ جديدة من طراز (ثور-ام 2) يمكن إطلاقها بواسطة إنسان آلي (روبوت). كما شرعت موسكو في تنفيذ مبادرة كبرى في مجال الطاقة، عبر مد أنبوب غاز "السبيل الشمالي" بمحاذاة بحر قزوين، وأنبوب النفط "بورجاس"، بهدف تدعيم قدرتها على التأثير في أسواق الطاقة الأوروبية. ولهذا كله، وغيره، يبدو واضحاً أن عام 2008 سيكون هو الأسخن في تاريخ العلاقات الأميركية -الروسية منذ انتهاء الحرب الباردة وإسدال الستار على نظام القطبية الثنائية وانهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد القطب الأميركي بقمة النظام العالمي في مطلع العقد الماضي. وربما يكون هذا العام حاسماً أيضاً بمعنى أن ما سيحدث فيه قد يحدد المسار الذي ستمضي فيه العلاقات بين موسكو وواشنطن في الفترة المقبلة. فإما أن تدرك واشنطن عدم إمكان التعامل مع موسكو من الآن فصاعداً باعتبارها الطرف المهزوم في الحرب الباردة، وتعيد النظر في نمط الشراكة التي قبلها الروس في العقد الماضي في ظروف صعبة يتجاوزونها الآن، أو أن تتواصل المواجهة التي بدأت عام 2007، ويعاد صوغ العلاقات الثنائية في ضوئها، بما لهذا التطور من انعكاسات على تفاعلات النظام العالمي ومسار الأزمات الدولية والإقليمية، التي يوجد معظمها وأهمها في منطقة الشرق الأوسط. فإذا تغلب العقل في واشنطن، سواء قبيل انتهاء ولاية الرئيس بوش في يناير 2009، أو بعيدها في ظل الإدارة الجديدة، سيكون ممكناً تطوير شراكة أميركية -روسية جديدة أكثر تكافؤاً على نحو يتيح لموسكو المشاركة في صنع القرارات الاستراتيجية على الصعيد الدولي. أما إذا أصرت واشنطن، في ظل إدارتها المقبلة كما الحالية، على معاملة موسكو على أساس نتائج الحرب الباردة، فالأرجح أن يصبح العالم أكثر توتراً لعدة سنوات قد تطول دون أن يشهد بالضرورة حرباً باردة جديدة. فالمواجهة الناشئة بين موسكو وواشنطن هي بطبيعتها حالة صراعية، لكنها تختلف عن ذلك الصراع الذي ساد العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية واستمر لأكثر من أربعة عقود. كان الصراع الذي أُطلق عليه "حرب باردة دولية" صراعاً صفرياً بين قوتين على طرفي نقيض، أيديولوجياً وسياسياً واستراتيجياً وعلى كل صعيد. كان صراعا بين طريقتين متعارضتين في الحياة عموماً، وليس فقط بين نظامين متناقضين. ولذلك فما أبعد ذلك الصراع عما يخوض الروس من أجله المواجهة الآن ضد الأميركيين، بعد أن تخلوا عن التنافر الأيديولوجي مع الغرب بوجه عام، وخلت سياستهم الخارجية من الاعتقاد الأيديولوجي في أن التاريخ معهم. ويصعب أن نجد أي وجه شبه بين الرئيس بوتين الآن، و"الرفيق" خروتشوف مثلا، باستثناء أن كلا منهما امتداد بطريقته للقياصرة. فالمواجهة التي قرر بوتين خوضها ضد الولايات المتحدة لا ترمي إلى إخضاعها، وإنما إلى تغيير قواعد العلاقة معها وإعادة النظر في نمط للشراكة لم يعد ممكنا لموسكو أن تقبله بعد أن عبرت المرحلة الصعبة التي اضطرت خلالها إلى تقديم تنازلات يشعر الروس الآن بأنها تنال من كبريائهم القومي، وتهدد أمنهم. وكل ما تريده موسكو اليوم هو أن تسدل ستاراً كثيفاً على المرحلة التي كانت فيها مريضة مهمومة بآلامها الداخلية منشغلة بمحاولة الخروج من محنة الانهيار الذي اقترن بتفكك "الإمبراطورية السوفييتية". فقد عبرت هذه المحنة بالفعل، وتعافت إلى حد كبير، وصارت قادرة على المواجهة، لكن ليس بهدف الانتصار على أميركا ولا لفرض تغيير جوهري في هيكل النظام العالمي، وإنما سعياً إلى مراجعة قواعد العلاقات الثنائية التي لم تعد مرضية لها. وليس متوقعاً أن يحدث أي تغير في هذه الأهداف الروسية، سواء بالنقصان أو بالزيادة، بعد أن يترك الرئيس بوتين مقعده لخليفته ديميتري ميدفيديف الذي بات فوزه في الانتخابات الرئاسية في مارس المقبل محسوماً سلفاً. فالخليفة هو بمثابة الظل بالنسبة لبوتين، إذ رافقه طوال مسيرته. ولن يجدّ جديدٌ في مضمون هذه العلاقة التي سيختلف شكلها عندما ينتقل ميدفيديف إلى رئاسة الدولة ويتولى بوتين رئاسة الحكومة. فليس متوقعاً أن يكون للانتخابات الرئاسية في موسكو، إذن، أثر في توجهات روسيا العالمية، بخلاف الانتخابات الرئاسية الأميركية التي قد تأتي في نوفمبر المقبل برئيس أكثر مرونة تجاه الطموحات الروسية. ومن هنا أهمية ما سيحدث في عام 2008، والذي بدأ ساخناً بين موسكو وواشنطن. فالتفاعلات التي يشهدها هذا العام هي التي ستحدد مسار العلاقة بين القوة العظمى الأولى والقوة العظمى العائدة إلى الساحة.