بين تداخل الثقافات... والعولمة الثقافية!
كنا ميزنا في نهاية المقالة الأولى من هذه السلسلة بين ثلاثة مستويات في الثقافة: المستوى الفردي، والمستوى الشعبي، والمستوى الإنساني. وقد انتهينا، انطلاقاً من هذا التصنيف، إلى القول إنه لا يمكن الحديث عن ثقافة مجتمع ما بكيفية مطلقة، وإن الثقافة هي دوماً ثقافة فئة، ثقافة عصر، ثقافة الخاصة أو ثقافة العامة بالتعبير القديم، ثقافة النخبة أو ثقافة الجمهور بالتعبير الحديث. ومع ذلك فإنه يجب ألا نغفل الطابع المنهجي الذي حملنا على ذلك التصنيف، وبالتالي يجب ألا ننظر إلى المستويات الثلاثة المذكورة نظرة سكونية، فنفصل هكذا بشكل تعسفي بين الفردي والمجتمعي والإنساني، بل يجب أن نضع نصب أعيننا، أنه في هذا الميدان، كما في غيره من الميادين، ليس هناك خاص مطلق، ولا عام مطلق. إن الثقافة على الصعيد الإنساني العام لابد أن تحمل بين طياتها شيئاً من الخصوصية، هي في آنٍ واحد، خصوصية الفرد صاحب الأثر الثقافي، أي الجانب الذاتي في إنتاجه، وخصوصية المجتمع الذي أنتج هذا الفرد، أي وضعيته الطبقية والاجتماعية. وبالمثل فإن الثقافة في المستوى الفردي لابد أن تصطبغ بنوع العمومية والشمول، وإلا لما كانت ثقافة.
إن عمومية الثقافة تحمل بين طياتها طابع الخصوصية، كما أن خصوصيتها تتسم، ولابد، بشيء من العمومية. إن المطلق والنسبي يشكلان هنا حقيقة واحدة متكاملة. إن فلسفة أفلاطون مثلاً تعكس، من جهة، الوضعية الاجتماعية للشعب اليوناني في عصره، كما تعكس أيضاً مكان أفلاطون في هذه الوضعية. ولكنها مع ذلك تضم شيئاً يتعدى أفلاطون ويتجاوز معطيات مجتمعه، شيئاً يتعلق بتطلعات الإنسان وتساؤلاته، تطلعات وتساؤلات تخترق سياج الزمان والمكان. ومثل ذلك يقال بالنسبة لشعر هوميروس ومسرح سوفوكليس وفلسفة الفارابي وشعر المعري والمتنبي وقصص ألف ليلة وليلة ومسرحيات شكسبير، وغير ذلك من الآثار الثقافية الخالدة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب ألا نغفل الحقيقة التالية، وهي أن الثقافة ليست هذا الجانب التعبيري الانفعالي وحسب، بل إنها أيضاً قوة فاعلة وسلاح خطير يؤثر في الإنسان، فيساهم في تشكيل وعيه وتوجيه رؤاه وتحديد آفاقه، كما يؤثر في المجتمع فيعرقل مسيرته أو يدفع بها إلى الأمام، ويعمل في ذات الوقت على توجيه المصير البشري عامة نحو هذه الجهة أو تلك.
ومن هنا تلك الظاهرة المرتبطة بموضوعنا أشد الارتباط، ونعني بها تأثير الفكر العالمي في الفكر الفردي والفكر الوطني، خصوصاً في هذا العصر الذي أصبحت فيه وسائل الطبع متيسرة كثيرة، وأدوات الاتصال والتواصل سريعة متعددة، مما نتجت عنه هذه الظاهرة التي أطلقت عليها اليونسكو في الخمسينيات عبارة محايدة لا تحمل بطانة إيديولوجية، كما هو الحال اليوم في العبارة التي تستعمل بديلاً عنها، أعني بتلك "تداخل الثقافات" وبهذه "صراع الثقافات" أو "حوارها". وهنا قد يكون من المفيد أن نستطرد قليلاً لنبين إلى أي مدى غيَّـر (حتى لا نقول "شوَّه") خطاب العولمة اليوم من مفاهيم خطاب الخمسينيات.
لنبدأ بمفهوم "تداخل الثقافات". لقد قلنا عنه إنه مفهوم محايد، لا يحمل أية بطانة إيديولوجية، ذلك لأنه يعبر بدون تحيُّز، وبدون الانخراط في أي صراع مهما كان، عن واقع تاريخي تم رصده كما هو بدون تمويه ولا تنويه. ذلك أنه كان هناك دوماً، وعلى مر العصور، نوع من الاتصال والتداخل بين الثقافات المتواجدة في عصر معين، أو المترابطة بفعل الزمن، وكان هذا التداخل يحدث ببطء في الغالب. وغالباً ما كان لا يتعدى مستوى الخلط والمزج، ونادراً ما أدى إلى اندماج كلي، أو إلى مركب جديد. كان هذا التداخل يتم بدون تخطيط مسبق. كان يتم عبر الأسفار والتجارة والحروب التي لم تكن تكتسي طابع الغزو الثقافي.
كان هناك ما يشبه "التقليد"، الضعيف أو القوي، للعادات والثقافات والأمور الحضارية الأخرى، إما سلباً وإما إيجاباً. ولم يكن الغالب، المنتصر عسكرياً، هو الذي ينتهي إلى السيادة الثقافية دوماً، وكما لاحظ ابن خلدون بحق، فإذا كان الظاهر هو أن المغلوب يقتدي بالغالب فقد يحدث العكس كما حصل بين العرب والفرس: لقد تغلب العرب زمن الفتوحات على الفرس عسكرياً وسياسياً ولكن الفرس لم يقلدوا العرب حضارياً بل العكس هو الذي حصل، أي أن الغالب هو الذي قلد المغلوب. وعندما تنبه العرب إلى ذلك وصار المغلوب ينتفض ويحاول استرجاع السيادة السياسية عن طريق "الثقافة" (الحركة الشعوبية، حرب "الكتب"... الخ)، برز عنصر ثالث هو الثقافة اليونانية التي انفردت بحقلين ثقافيين مهمين: العلم والفلسفة، فحصل نوع من التداخل الثقافي، غني وقوي، بين ثلاثة أطراف: العرب، والفرس، والسريان (حاملو الثقافة اليونانية).
كان هناك تنافس قوي بين هذه الأطراف الثلاثة، حتى إن كبار المثقفين والعلماء كانوا من جميع أقاليم الرقعة الجغرافية التي امتدت عليها الحضارية العربية الإسلامية. ومع اتساع هذه الرقعة وتعدد عرقياتها حصل تداخل سلمي واسع تبُودلت فيه المواقع في كثير من المجالات. وهكذا كان أول فيلسوف في الإسلام (الكندي من قبيلة كندة اليمنية)، وكان أكبر مفسر للقرآن من طبرستان (الطبري)، وأكبر مدوِّن للحديث من بخارى (البخاري)، وأكبر عالم في الفيزياء من البصرة (ابن الهيثم)، وأكبر طبيب من دمشق (ابن النفيس)، وأعظم مؤرخ إنثروبولوجي من المغرب العربي (ابن خلدون)، وأعظم فيلسوف من الأندلس (ابن رشد)... الخ.
ولم يكن هذا النوع من تلاقح الحضارات أو تداخلها يحتاج إلى دعوة، ولم يحدث بتخطيط مسبق بل كان عملية تاريخية تلقائية، عملية يحكمها طلب الأفضل. أما اليوم فإن تداخل الثقافات أصبح يكتسي طابعاً آخر، هو طابع الغزو والسيطرة، طابع الصراع الحضاري -الذي ليس الصراع الأيديولوجي إلا الشكل الأعلى من أشكاله. ومما يزيد في خطورة هذا الصراع انتشار المَطِيَّات الثقافية، وسرعتها وفعاليتها المفرطة. إن الثقافة أصبحت اليوم، مثلها مثل الهواء، تدخل كل بيت، وتغزو كل قلب، وتقتحم كل عقل مهما كان مستوى يقظته أو درجة غفوته. حصل هذا منذ الثمانينيات من القرن الماضي مع انتشار العولمة كواقع اقتصادي سياسي إعلامي فبدأ مشهد الإشكالية الثقافية في العالم العربي يتغير، وبدأ أثر ذلك يظهر بوضوح على مستوى المفاهيم والتصورات. لقد كانت مفردات الخطاب العربي منذ الخمسينيات محكومة إلى حد كبير بمفردات الفكر الوطني المعادي للاستعمار والفكر الاشتراكي المناهض للرأسمالية والإمبريالية، وهي مفردات متكاملة على الأقل في كونها منخرطة في الحرب الباردة إلى جانب الفكر الاشتراكي مع التأثر، بهذه الدرجة أو تلك، بمحاولات البحث عن طريق ثالثة خاصة بما كان يسمى بـ"العالم الثالث".
ومن أجل أن نلمس مدى التحول الذي طرأ على مفردات الخطاب العربي بتأثير مفردات العولمة وخطاب الإمبراطورية الأميركية الهادفة إلى السيطرة الثقافية على العالم، إلى جانب سيطرتها الاقتصادية والعسكرية، لابد من القيام بمقارنة ولو سريعة بين مفردات خطابنا اليوم وخطاب الأمس في الثقافة العربية.