الدين والعلمانية والهوية الفلسطينية
على جوانب الصراع السياسي بين "فتح" و"حماس" يتطور صراع فكري هوياتي من نوع آخر على مستوى القواعد ويعبر عن نفسه في وسائل الإعلام الحزبية ومنتديات الإنترنت التابعة لهذا الفريق أو ذاك. يتنافس الصراعان, السياسي والفكري, بين الطرفين في مقدار البؤس الذي يقدمانه, بسبب المناخ المدمر الذي يلف الجميع. أهم معالم ذلك البؤس هو أن "العدو المشترك -إسرائيل" بالكاد يظهر في السجالات الراهنة متعالية الدويِّ. فالتوتر الآيل إلى التصاعد أكثر من ميله للخفوت, والتحزب الطاغي الذي نافس في عصبويته التحزب القبلي والعشائري, ومراكمة الأحقاد, والتربص الدائم, وإطلاق الاتهامات التخوينية أو التكفيرية بالسهولة التي يتم بها تنفس الهواء, كل ذلك ينفث سموماً هائلة تتقزم إلى جوارها السموم "الاعتيادية"! في مناخ كهذا يصبح إقحام جدل الدين والعلمانية وإثارة النقاش حولهما في فلسطين عملية عبثية تهدف التجييش وتعبئة ذخيرة جديدة أكثر من استهدافها إثارة جدل فكري معقول.
لكن ذلك على مرارته لا يجب أن يحول دون مقاربة هذا الموضوع ومحاولة استدعاء نقاش هادئ رغم السجال الطاحن والدم المراق. فهذا النقاش في واقع الأمر ليس جديداً وهو سابق على أحداث الصراع الأخيرة, وهو مطروح بحدة خلال السنوات القليلة الماضية في الساحة الفلسطينية, كما في الساحات العربية الأخرى. وربما كان السؤال المدخلي في هكذا نقاش هو "ما هي الهوية الفلسطينية بالضبط", ثم ما هي مكوناتها, وبماذا تتعرف تلك الهوية, وعلى ماذا تتأسس, وكيف تطورت سيرورتها, وأين وظيفتها في سياق النضال التاريخي لاسترجاع حقوق الفلسطينيين التي سلبها المشروع الصهيوني في فلسطين؟
ما يهمنا في اللحظة الراهنة ليس مداولة الإجابات الأكاديمية والتأريخية لهذا السؤال وتفريعاته, فذلك أمر تتعذر الإحاطة به في هذه العجالة, لكن ما يمكن التركيز عليه هو التقاط الخيط المركزي الذي يكاد يجمع بين معظم محاولات تقديم إجابات عن سؤال الهوية الفلسطينية. هذا الخط المركزي هو أن هذه الهوية تخلّقت في رحم الصراع مع المشروع الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين, وقد يجوز القول إن إرهاصاتها البعيدة بدأت مع وعي القلة القليلة لخطر الصهيونية المتعاظم في فلسطين مع أواخر القرن التاسع عشر, وتطورت على أساس النقيض الموضوعي لذلك المشروع. عكست تلك الهوية تشبث ناس فلسطين بأرضهم وانتماءَهم لها وإصرارهم على العودة إليها بعد الحروب وما نتج عنها من طرد وتهجير. وبسبب هذه الطبيعة المختلفة وارتباطها مع المحتل الأجنبي فإن هذه الهوية غير تقليدية, وهي لا تزال كذلك.
وتوسيعاً وتأطيراً لتلك السمة "غير التقليدية" لنا أن نقول إن "الهوية" عموماً تستبطن, شئنا أم أبينا, التمايز عن "آخر" و"آخرين" بالتعريف. وهذا التمايز تصيره الأداة التي بها وعبرها يدركنا ويعينا ذلك "الآخر", تماماً كما تصير "هوية" ذلك "الآخر" هي المدرك المترسخ في اللاوعي الجماعي "عندنا" وبها "نتعرف" عليه و"نعرّفه". ولأنها كذلك, أي الأداة المُعرّفة, فإن العالم يعرف الفلسطينيين بهويتهم النضالية التائقة لتحرير أرضهم وإرجاع حقوقهم, ضد مشروع احتلالي تعارضه الشرائع الدولية والعدلية وقبلها وبعدها الضمائر الحية. على ذلك ليست "الهوية الفلسطينية", وعبر هذا التعريف الموجز وربما المُخل, مسألة حيادية, أو يصح التماحك بها وإخراجها عن السكة المُعرّفة بها. فهي هوية ذات وظيفة: وظيفتها إبقاء تعريف الفلسطيني, المُسالم أو المُقاوم, في إطار قضية التحرر والتحرير إلى أن يُنجزا. هذا التعريف ظل واضح القسمات منذ سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين وحتى الآن.
لكن وضوح تلك القسمات صارت تقترب منه دوائر الغموض في السنوات الأخيرة. فجدل الإسلاموية والعلمانية, وتأثيراته على معنى الهوية الفلسطينية, بما في ذلك تقابلية وتداخلية مفاهيم "أسلمة الهوية الفلسطينية" أو "فلسْطنة التيار الإسلامي في فلسطين" صار يثير أسئلة وغباراً كثيراً, قد يطمر في نهاية المطاف خط السكة الواضح الذي تعودت أن تسير عليه الهوية الفلسطينية تاريخياً. مرتبط بذلك أيضاً ما تطور من مدخلات على "المشروع الوطني الفلسطيني" اقتحمت مسار تلك السكة, وصارت تعرض بدائل عن التشبث بها. وأهم اقتحامين أربكا ذلك المشروع وتحرشا بمضمون الهوية الفلسطينية ووظيفتها هما "مشروع أوسلو" لحركة "فتح", و"مشروع الرؤية الإسلامية" لحركة "حماس". الأول حرق وظيفة الهوية قبل إنجاز المهمة, فقبل تحقيق الحقوق صار يُنظر للفلسطيني والفلسطينيين على أنهم أصحاب سلطة ودولة, ويتناكفون مع سلطة ودولة أخرى (إسرائيل) كما هو الشأن في أكثر من بقعة في العالم. واهتزت فكرة التحرير وإنجاز الحقوق من حول "الهوية" النضالية المعروفة. ووقع كثير من أنصار الفلسطينيين في العالم في المأزق المحرج, إذ يدركون من ناحية أن المشروع لم ينته وأن الاحتلال ما زال قائماً, لكنهم يرون من ناحية ثانية أن القيادة التاريخية للمشروع هي التي قررت هذا القطع المفاجئ للمعنى الظرفي للهوية الفلسطينية (أي ارتباطها بإنجاز التحرير وتحصيل الحقوق).
أما "الرؤية الإسلامية" التي تطرحها حركة "حماس" إزاء فلسطين والصراع مع المشروع الصهيوني وإزاء الهوية الفلسطينية, ورغم كونها ضبابية جداً إلا أنها كانت هي الأخرى كافية لخلق تأثيرات عكسية لا تقل ضرراً عن "مشروع أوسلو" على "الهوية الفلسطينية التحررية". فهذه الرؤية تُقحم على الهوية الفلسطينية أجندات غامضة تضاف الى الاهتزاز الذي حدث أصلاً مع أوسلو. ومن ذلك مقاربات "أسلمة الهوية الفلسطينية", أو "أسلمة الصراع", أو "أسلمة المجتمع الفلسطيني"؟ فالمعنى الأقصر لهذه "الأسلمات", وعلى ما فيها من افتراضات صارمة بشأن "حال" المجتمع الفلسطيني أو الهوية الفلسطينية, هو زيادة حمولة تلك الهوية بأثقال لا طاقة لها بها, وإرباك تواجدها في المربع التحريري الذي عرفت وتعرف به.
تحتاج الهوية الفلسطينية بهذا المعنى إلى المحافظة على رمزيتها التحريرية وطبيعتها غير المؤدلجة, أي صفتها العلمانية, التي بها تمكنت من التواصل مع العالم وشعوبه. وحشر تلك الهوية في بوتقة إسلامية لا يعمل سوى جمع الافتعال الشعاراتي إلى قصر النظر البراغماتي. وهو قصر نظر تفادته الحركة الوطنية الفلسطينية عبر تاريخها الطويل, إذ ليس بالأمر العابر أن تحرص شخصية قيادية كبيرة وذات ثقل ديني كبير مثل المفتي أمين الحسيني في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي على الإبقاء على الصفة الوطنية العامة للهوية الفلسطينية والنضال الفلسطيني, من دون إبداء الهوس بأسلمتة وأسلمة كل ما يمت له بصلة.
فمن ناحية مبدئية ورغم المناخ الطاغي في البلدان العربية والإسلامية حيث الخطاب الديني صار يتحكم في الوجهات العامة للرأي العام, فإن فكرة "أسلمة" كل شيء حولنا هي فكرة حزبية وتفترض "لا إسلامية" المجتمعات وهوياتها وشعوبها. وهي فكرة لا تاريخية تتجاهل تجربة الاجتماع العربي والإسلامي لقرون طويلة, وهي تجربة يبتعد غناها وتنوعها وتركيبها كل البعد عن التصور الطوباوي الإسلاموي الراهن في تخيل "النموذج الإسلامي" وتسطحه المفترض. وهو نموذج يبدأ بإقحام الدين في قلب السياسة, ومنها يصل إلى بقية مفاصل المجتمع والحياة العامة. "أسلمة الهوية الفلسطينية" لأنها علمانية لن تعمل إلا على تدميرها.
أما من ناحية مصلحية بحتة, وحتى إن كانت تلك "الأسلمة" تستهدف حشد نصرة العرب والمسلمين وراء قضية فلسطين, فهؤلاء لا يحتاجون إلى مثل هذه الجراحة في الهوية لضمان تأييدهم. فهم بالتعريف مؤيدون لها وبكل طاقتهم. لكن الحاجة كانت وما زالت ملحة لاختراق فضاءات أبعد من فضاءات المجتمعات العربية والمسلمة بحثاً عن التأييد. وفي تلك الفضاءات فإن كون الهوية وطنية ونضالية وتحريرية أقوى تأثيراً وأقل تنفيراً مما لو حُشرت في النظرة الحزبية الإسلامية. حديث يطول في مساحة قصرت, لكن بأمل أن تكون الفكرة وصلت!