حوارات طرشان أم ممارسات حيتان؟!
بعد سبع سنوات عجاف منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فإن من أهم الأسئلة التي تطرح نفسها خلال العام الجديد 2008: هل سيتمكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت من عقد اتفاق سلام على الرغم من القوى الرافضة من الطرفين للحلول الوسط، إضافة للظروف الداخلية غير المواتية؟ ففي إسرائيل نفسها، وعلاوة على المقاومات المتنوعة داخل الحزب الحاكم "كاديما"، يهدد حزبا "شاس" و"إسرائيل بيتنا" بالانسحاب من الائتلاف الحاكم وإسقاط الحكومة في حال قيام (أولمرت) بتقديم "التنازلات" للفلسطينيين أثناء المفاوضات. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الرئيس عباس الذي لن يكون أمامه سوى الفوز بكل شيء أو فقدان وجوده السياسي، وهو الأمر الذي اعترفت به وزيرة الخارجية الأميركية (كوندوليزا رايس) حينما توقعت اختفاء عباس وأنصاره من المعتدلين من المسرح السياسي إذا هم فشلوا في تأسيس دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
وتبقى المعضلة الأكبر إسرائيلية بحتة، فمنذ العام 1967، كان ومازال الاحتلال الإسرائيلي سبباً جوهرياً لنطاق واسع من انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. فبعيداً عن الخلاف حول الإنجازات التي تحدث عنها البعض في مؤتمر أنابوليس، وبعيداً عن الارتياح العام من مؤتمر المانحين في باريس، الذي وعد بجمع مليارات الدولارات من أجل أن تنفق على الشعب الفلسطيني سواء من خلال السلطة الوطنية (رواتب، تجهيزات.. إلخ) أو من خلال خطط ومشاريع تنموية فورية أو متوسطة المدى، بعيداً عن هذا وذاك لا تزال الانتهاكات الإسرائيلية تتصاعد ضد الشعب العربي الفلسطيني! ويكفي النظر إلى تقرير نوفمبر 2007 الصادر عن دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية لإدراك هذه الحقيقة، حيث استشهد 42 مواطناً بينهم طفلان وطبيب، وبلغ عدد الجرحى 126 بينهم 20 طفلا و5 متضامنين من حركات السلام العالمية، وعدد المعتقلين 411 مواطناً بينهم 27 طفلاً، فيما لا زالت إجراءات الاحتلال مشددة على الحواجز العسكرية الثابتة منذ 6/4/2007، حيث أقامت 429 حاجزاً، و816 اقتحاماً للتجمعات السكانية، وهدمت 7 منازل، فضلاً عن وقوع 25 اعتداء للمستعمرين/"المستوطنين" من بينها إحراق أشجار زيتون و6 اعتداءات على الأماكن الدينية. بل زاد التدهور في الفترة (18/12 - 24/12/2007) وهي فترة المفاوضات التي يُقال لنا إنها ستكون جادة، حيث بلغت الانتهاكات 1280 انتهاكاً، تمثلت في أعمال إطلاق نار كانت حصيلتها 15 شهيداً واعتقال 59 مواطناً وتنفيذ 137 اقتحاماً ومداهمة، وإقامة 84 حاجزاً طياراً (مؤقتاً) و349 حالة إغلاق لطرق ومعابر. وبذلك يكون عدد الانتهاكات الإسرائيلية منذ بداية العام 2007 (58913)، منها 3033 عملية إطلاق نار سقط خلالها 405 شهداء وأصيب 2274 مواطنا، وأقامت قوات الاحتلال 55167 حاجزاً متنقلاً، واعتقلت 5415 مواطناً، مع أعمال التجريف واقتلاع الأشجار 162 مرة. هذا ولم يسلم المواطنون الفلسطينيون من اعتداءات المستعمرين حيث بلغت (307 اعتداءات). بل إن منظمة "بتسيلم" الاسرائيلية للدفاع عن حقوق الإنسان، أوضحت في تقرير رأس السنة الميلادية الجديدة أن أكثر من ثلث الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية في 2007 كانوا مدنيين. وأكد التقرير أن العام 2007 شهد "تدهوراً لوضع حقوق الانسان في الأراضي المحتلة، مشدداً على "الوضع الانساني في قطاع غزة الذي تراجع إلى أدنى مستوى له بسبب الحصار الاسرائيلي للمنطقة". وتستمر المخاوف من اجتياح القطاع، حيث تشير وسائل الاعلام الاسرائيلية إلى وجود خطة لتنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق من أجل إنهاء الضربات الصاروخية التي تقوم بها فصائل فلسطينية. وها هو الحصار والخنق على القطاع قد أصبح مضاعفا ليشمل قطع وتقليص إمدادات الوقود والغاز والغذاء والكهرباء... الخ
إن فهم إسرائيل لانعقاد ما سمي مؤتمر السلام في أنابوليس يتمثل في "منحها الشرعية" للاستمرار في الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات والتدمير والتخريب والحصار، وغيرها من الانتهاكات التي يعتبرها القانون الدولي جرائم حرب بامتياز، وأنه بالتالي لا علاقة للمؤتمر- على حد قول بعض المراقبين- بأي حل أو تسوية تؤدي إلى تحقيق مطالب الفلسطينيين وفق برنامج الحد الأدنى القائل بقيام الدولة المستقلة ولا نقول ضمان حق العودة إلا في حدود ما بات يُقال عن أنه "حل متفق عليه" أي حل يكون فيه "الفيتو" الإسرائيلي هو الفيصل! وفضلاً عن كل ما سبق، جاء قرار الحكومة الإسرائيلية الخاص بطرح عطاء لبناء أكثر من 300 وحدة سكنية في جبل "أبوغنيم"، رغم ما عادوا وأعلنوا عنه من إبلاغ (أولمرت) وزرائه في رسالة بأن أي بناء في المستعمرات/"المستوطنات" الإسرائيلية في الضفة يتطلب مصادقته أو مصادقة وزير "الدفاع" وطبعاً دون ضمانات، ودون التطرق إلى عمليات البناء "الاستيطاني" في القدس.
وإن دلت المعطيات السابقة على شيء، بالنظر إلى حجم ونوع الاعتداءات الواردة في التقارير المختلفة، فإنما يدل على مفارقة عجيبة، بين اعتبار أنابوليس فرصة للسلام لا ينبغي إضاعتها (وكم كنا نتمنى ذلك)، وبين الحقائق الموجودة على الأرض من تفاقم وتيرة الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي يطرح التساؤل: ما جدوى العملية السياسية التفاوضية في ظل كل هذه الاعتداءات ومواصلة إسرائيل عملية الاستعمار/"الاستيطان" ومصادرة الأراضي؟! فردود الفعل الإسرائيلية على كل ما سبق تمثلت في الاستهتار الذي هو موقف نابع أصلاً من رؤية استراتيجية لدى الائتلاف الإسرائيلي الحاكم المؤمن بأن "مكافحة الإرهاب" واستمرار الاستعمار/ "الاستيطان" مقدّمان على عملية السلام".
مما لا شك فيه أن التفاوض، في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، يخلق ظلالاً سلبية على مسار التفاوض نفسه ناهيك عن القضية برمتها، ومنها أن التفاوض تحت الحراب وتحت ضغط حقائق الأمر الواقع، يضع المفاوض الفلسطيني الأعزل، تحت الضغط الإسرائيلي المباشر، ويُشغله عن المسائل الجوهرية الدائمة بالممارسات القمعية المؤقتة القائمة فيجبره، بدل التفرغ للبحث حول القدس واللاجئين وسيادة الدولة والمياه، على الانشغال بالمطالبة بوقف "الاستيطان" الجديد والاعتداءات العسكرية ورفع الحواجز! وحقا، لم يعد بالإمكان التنازل أكثر. فالدول العربية قد التزمت بدور ايجابي من خلال تبنيها مبادرة عربية تحقق السلام "العادل" والشامل وبعض حقوق الفلسطينيين، ومع ذلك، لم تتخل إسرائيل عن استمرار سياسة التنكيل بالفلسطينيين لإخضاعهم. وإذا كانت الأولوية المطلقة يجب أن تعطى اليوم لتأمين حماية دولية للشعب الفلسطيني، فإن الحل السياسي هو وحده الكفيل بإخراج الوضع مما هو عليه.
وفي هذا السياق، نشهد الموقف الفلسطيني المفاوض الجيد في الجلستين السابقتين، بعد قرار اللجنة التنفيذية بشأن رفض التساهل قطعيا في موضوع الاستعمار/"الاستيطان"، وأن عدم الانسحاب من "التفاوض" مرده التأكيد للمجتمع الدولي أن الطرف الفلسطيني مُصر على مساعيه السلمية رغم الممارسات الإسرائيلية ومن أجل فضحها أيضاً، وكذلك رغم ممارسات الحيتان الإسرائيلية في ظل حوار الطرشان الفلسطيني – الإسرائيلي الدائر!