وقعت ثلاثة أرباع دول العالم على اتفاقية دولية تحظر استخدام الألغام المضادة للأفراد، وهي الاتفاقية المعروفة باسم "معاهدة أوتاوا لحظر الألغام" التي تنص على منع استخدام وإنتاج وحيازة وتصدير ما يسمى بـ"القاتل الخفي". لكن في الوقت الذي تمر فيه الذكرى العاشرة لتلك الاتفاقية مازالت الولايات المتحدة ترفض التوقيع عليها والانضمام إلى باقي دول العالم في هذا المجال. ومع الأسف أصبحت هذه المقاربة الأميركية التي تقول "لا" للاتفاقات الدولية نمطاً أميركاً صرفاً، لاسيما في عهد إدارة الرئيس بوش. وبالطبع لابد من تغيير هذا النهج الذي تتبعه واشنطن، وأن يجعل الرئيس الأميركي المقبل من ضمن أولوياته العاجلة الرجوع إلى الحظيرة الدولية والاضطلاع بدور أميركا القيادي على الصعيد العالمي. وإذا كان الدافع وراء هذا الموقف الأميركي الرافض للانضمام إلى الاتفاقيات الدولية يرتبط أحياناً بأسباب أمنية واقتصادية، أو قانونية، إلا أنه في الغالب الأعم ينبني على اعتبارات أيديولوجية مثل عدم رغبة إدارة الرئيس بوش في إثقال كاهل الولايات المتحدة بالمزيد من الالتزامات الدولية التي من شأنها تقييد حرية أميركا. والواقع أن هذه المقاربة التي تركز على حرية أميركا على ما سواها تعزلها عن القضايا الدولية المهمة التي تستدعي انخراطها الإيجابي والفعال. ففي شهر مارس من هذه السنة تمت صياغة معاهدة جديدة لحقوق الإنسان من قبل الأمم المتحدة متعلقة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقات الخاصة وعرضت على الدول للتوقيع عليها. وتضمن الاتفاقية الجديدة للأشخاص المعاقين حقوقاً متساوية مع باقي الأشخاص في العمل والتعليم. ومن شأن التوقيع على هذه الاتفاقية التي تهم الأشخاص المعاقين بسبب الألغام الأرضية، والذين يقدر عددهم بحوالي 437 ألفاً حول العالم، فضلاً عن الأشخاص المصابين بشتى أنواع الأسلحة الأخرى، أن يمنحهم فرصة لإعادة بناء حياتهم والاندماج مجدداً في مجتمعاتهم. وعندما طرحت الاتفاقية للتوقيع في اليوم الأول وصل عدد الدول الموقعة إلى 81 دولة ليرتفع بعد ذلك إلى 119 دولة، لكن الولايات المتحدة بقيت خارج هذه الاتفاقية أيضاً. وواصلت واشنطن رفضها التوقيع على اتفاقيات أخرى مثل امتناعها عن حضور المؤتمر الدولي الذي عقد خلال الشهر الجاري في فيينا بهدف التوصل إلى اتفاق يحظر استخدام القنابل العنقودية التي تلحق أضراراً بالغة بالمدنيين. فما أن تُلقى القنابل العنقودية حتى تنقسم إلى مئات القنابل الصغيرة وتتوزع على مساحة واسعة، كما أن العديد منها يظل دون انفجار ليتحول إلى ألغام حقيقية قابلة للانفجار في أي وقت، ومن ثم إيذاء السكان. ويبدو أن استخدام السلاح في ارتفاع مطرد كما الخسائر البشرية، ولا أدل على ذلك من حرب لبنان في صيف 2006، حيث يقدر مسؤولو الأمم المتحدة أن الجيش الإسرائيلي أسقط ما لا يقل عن 1.2 مليون قنبلة عنقودية في جنوب لبنان، أغلبها صنع في الولايات المتحدة. ووفقاً لإحصائيات منظمة "هيومان رايتس ووتش" فقد تسببت تلك القنابل في قتل وجرح 250 شخصاً في لبنان منذ انتهاء الحرب في صيف العام الماضي. وبدلاً من إيفاد مبعوثيها إلى مؤتمر فيينا أعلنت إدارة الرئيس بوش أنها ستسعى إلى تنظيم استخدام القنابل العنقودية في منتدى خاص أطلقت عليه اسم "الاتفاقية حول بعض الأسلحة التقليدية"، وهي الاتفاقية التي وصفتها مجلة "الإيكونوميست" البريطانية بأنها "عملية بطيئة بدأت منذ 1980" وستأخذ سنوات قبل أن تحقق أية نتائج. واللافت أن سجل الولايات المتحدة في مجال معارضة الاتفاقات والمعاهدات الدولية الرامية إلى بلورة قواعد ملزمة قانونياً لحماية المدنيين من الانعكاسات السلبية للحروب وتوابعها مليء بالمفارقات. فعلى رغم أن أميركا لم توقع على معاهدة حظر الألغام الأرضية، إلا أنها تعتبر أكبر مساهم مالي على الصعيد العالمي في نزع الألغام وتقديم المساعدة للضحايا. كما أن الاتفاقية الأممية التي تحمي حقوق المصابين استلهمت من نموذج التشريع الأميركي لعام 1990 الذي يحمي المصابين في الحروب. ولعل المفارقة الأهم هي فشل الولايات المتحدة في جني ثمار مبادراتها التي تقوم بها في أنحاء العالم برفضها المعاند الانضمام رسمياً إلى الاتفاقيات الدولية. وهكذا وبدلاً من أن تلقى أميركا مشاعر التقدير تصبح في المقابل محط استياء دولي بسبب تمسكها بـ"الاستثناء الأميركي". وهذا الاستياء الذي تجلى بشكل واضح في مؤتمر "بالي" الأخير حول الاحتباس الحراري، حيث جوبهت المناورات الأميركية بأصوات منددة، وبتهديد الوفد الأوروبي بمقاطعة مؤتمر البيئة الذي تنوي الإدارة الأميركية عقده خلال الشهر المقبل في هاواي. ورغم المرونة التي أبدتها الولايات المتحدة في مؤتمر "بالي" بإندونيسيا بسبب الضغوط التي مورست عليها، إلا أنها مازالت مصرة على رفض الانضمام إلى اتفاق عالمي يحد من انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"