بعد أيام قليلة تحل الذكرى الثانية والخمسون لاستقلال السودان وستبقى ذكرى اليوم الأول من يناير عام 1956 بكل ما صحبه من ذكريات وأيام تاريخية حافلة بالأفراح والأتراح، بالانتصارات والهزائم، والإنجازات والإخفاقات، ستبقى هي أغلى وأعز الأيام في سجل التاريخ الوطني للسودان والسودانيين. فالسودانيون الذين حققوا في ذلك اليوم تحرير وطنهم الذي ظل مستعمراً لأكثر من نصف قرن، ورفعوا علم بلادهم المثلث الألوان فيما يبدو في ذلك الزمان وكأنه "معجزة سياسية" تفرد بها السودان، ظلوا على اعتقادهم بأن يوم إعلان الاستقلال هو اليوم الذي جمعهم ووحد صفوفهم وإرادتهم وفتح صفحة جديدة في تاريخهم القديم الممتد. فالسودان الذي كان يبدو في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم بلداً ينقسم شعبه بين اتحاديين واستقلاليين، جنوبيين وشماليين، تمكن بإرادة أهله وبقوة وبصيرة الحركة الوطنية وقادتها الأفذاذ من أن يحقق استقلاله عن دولتي الحكم الثنائي وكان "استقلالاً نظيفاً" وسليماً لم تقيده القيود التي فرضت على أمثاله من البلدان الأفريقية الطامحة آنذاك للتحرر الوطني، والتي خاضت حروباً دموية لتحقق ما حققه السودان بقرار ديمقراطي صادر عن مجلس تشريعي بإجماع أعضائه السودانيين. وكان ذلك هو الدرس الأول الذي استوعبه رواد الاستقلال، أي أنه بإجماع وحدة الإرادة الوطنية يمكن تحقيق المعجزات. وهو ذات الدرس الذي عندما استصحبوه في مسيرتهم السياسية ونضالهم المستمر من أجل الديمقراطية والعدل حققوا معجزة ثانية في أكتوبر عام 1964. إن دكتاتورية نوفمبر 1958 ما كان لها أن تسقط وتتلاشى بالصورة التي حدثت في أكتوبر إلا بوحدة الإرادة الوطنية التي قادت مبادرة الإضراب السياسي والعصيان المدني فأسقطت ديكتاتورية عسكرية بدون إطلاق طلقة واحدة، وبذلك دخلت "ثورة أكتوبر" في سجل الثورات التاريخية التي ما تزال تبحث وتدرس على مستوى العالم. إن أيام التاريخ الخالدة لا تذ كر لمجرد التغنِّي بذكرياتها العطرة لأنه أهم من ذلك أن تبحث للاستفادة من إيجابياتها وتجاوز سلبياتها في حاضر ومستقبل البلد، وها هو العام الجديد يهل على السودان والسودانيون أحوج ما يكونون إلى مراجعة عميقة لحالة وطنهم واستعداد لمواجهة ما يحمله العام الجديد (2008) لوطنهم. السودان اليوم في أكثر التصورات تفاؤلاً يمر بحالة أشبه بما كان عليه في سنوات ما قبل إعلان الاستقلال. فالتمزق والتشرذم اللذان كانا من بين نبوءات المتنبئين من الاستعماريين القدامى يكادان اليوم يصبحان ليس فقط هاجساً يخشاه الناس بل واقعاً ممكناً أن يتحقق. وهوة انعدام الثقة تتغذى كل يوم على حساب إرادة الوحدة الوطنية. وصورة العجز الاقتصادي وسوء الإدارة الاقتصادية التي قادت إلى ارتفاع حدة الفقر والتفاوت بين المواطنين في الحصول على حقوقهم المشروعة من رعاية صحية وتعليمية. والمجاعات وما يصحبها من مآسٍ هي الوجبة اليومية التي تقتات على ذكرها وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع الدولي المعنية. والقوات الدولية مهما كانت تسميتها، ومهما كان الرأي فيها ستحل في دارفور وغيرها من أراضي السودان... فالصورة اليوم على وجه العموم تحمل إنذارات وشواهد مبكرة تنذر بمخاطر قد تصبح الاستهانة بها جريمة في حق الوطن... وذلك ما يجعل الناس يتطلعون ويسترجعون درس يوم إعلان الاستقلال الأول، ويسابقون قياداتهم سعياً إلى تحقيق الوحدة الوطنية بعزيمة صادقة تمكن الوطن من الخروج من هذا الوضع الذي جعله على حافة الهاوية. وذلك ما يجعل الناس -عامة المواطنين- يتمسكون بأي خيط من الأمل -مهما كان رفيعاً- وأي بادرة تلوح لهم تدعو وتسعى لتحقيق وحدة وطنية قائمة على أسس ورغبة صادقة لتفادي لحظة الانهيار والتمزق التي يسعى لها أعداء الوطن. ولعل بارقة الأمل التي لاحت بإطلاق دعوة الحوار من "المؤتمر الوطني" الحاكم والقوى السياسية الأخرى تجد لنفسها مكاناً خلال الاحتفال بذكرى يوم إعلان الاستقلال، وتذكر القائمين بأمرها بالدرس الأول الذي تعلمناه من هذه الذكرى الخالدة.