انتفاضة فلسطينية ثالثة!
قد يكون الشعب الفلسطيني في حاجة فعلاً إلى انتفاضة ثالثة، ولكنها ليست من النوع الذي قصده رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل في كلمة متلفزة بثتها فضائية "الأقصى" التابعة لهذه الحركة من مقره بدمشق في بداية الأسبوع الماضى.
وتزامن بث هذه الكلمة مع قيام"حماس" بحشد عدد هائل قُدر بأكثر من مائتي ألف في غزة احتفالاً بالذكرى العشرين لتأسيسها، في رسالة تحدٍ كان واضحاً أنها موجهة في المقام الأول ضد حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وليس ضد إسرائيل. وغطت أعلام "حماس" الخضراء على العلم الفلسطيني في يوم بدت فيه غزة خضراء شديدة الخضرة على نحو يناقض واقع الحال فيها والذي يبدو السواد هو أقرب الألوان إليه. وقد لوح مشعل، في كلمته، بما أسماه انتفاضة ثالثة ورابعة، فيما راح يصب اللعنات على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي اعتبره "واهماً" لأنه (يظن أن الشعبية تأتي من الدعم الدولي)، بينما الشعبية الحقيقية تأتي من الشعب.
وكان واضحاً أن "حماس" أرادت أن تجعل من إحياء ذكرى تأسيسها مناسبة للرد على إحياء "فتح" ذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في الشهر الماضي. وربما رغبت، أيضاً، في أن تستبق إحياء غريمتها ذكرى انطلاقة العمل الفدائي الفلسطيني في مطلع الشهر المقبل.
وهكذا صار الهم الأول لكل من الحركتين الرئيسيتين في الساحة الفلسطينية هو اثبات أنها الأكثر شرعية، أو حتى صاحبة الشرعية الوحيدة، والطعن في جدارة الأخرى وسحب البساط من تحتها. ولا غرابة في ذلك، بعد أن ضلت كلتاهما، أو على الأقل المسيطرون على القرار فيهما، الطريق. فصارت كل منهما للأخرى عدواً، بل العدو الرئيسي، بما يعنيه ذلك من تحول مأساوي في طابع الصراع على أرض فلسطين.
وهذا هو، تحديداً وليس غيره، ما يصح أن ينتفض الشعب الفلسطيني ضده سعياً إلى وضع حد لتصفية قضيته النبيلة بأيدي من سلمهم قيادته واستأمنهم عليها وسار وراءهم، كل حسب انتمائه، بأمل استعادة شيء من حقوقه السليبة.
فالانتفاضة الثالثة، إذن إذا وقعت، يُفترض أن تكون مختلفة عن الانتفاضتين السابقتين اللتين حلت الذكرى العشرون لأولاهما قبل أيام، بينما كانت الذكرى السابقة للثانية منهما في آخر سبتمبر الماضي.
فلا تتوفر، اليوم، المقومات اللازمة لانتفاضة مشابهة. و"الفضل" في ذلك لحركتي "حماس" و"فتح" اللتين تفرغتا لمواجهة ضارية بينهما أخذت تتصاعد إلى أن تجاوزت ما كان الجميع يعتبرونه خطاً أحمر، وهو الدم الفلسطيني. وتبين أن تأكيد قادة "فتح" و"حماس" على مدى سنوات طويلة أن "الدم الفلسطيني خط أحمر" لم يكن أكثر من شعارات فارغة ومزايدات من النوع الذي اكتوت به قضية فلسطين طول تاريخها.
وبلغت المواجهة المأساوية ذروتها مع حسم الصراع عسكرياً في قطاع غزة في منتصف يونيو الماضي لمصلحة قوات حركة "حماس"، التي بسطت سيطرتها عليه. وأصبحت المساحة الصغيرة الباقية من فلسطين التاريخية، والتي يناضل شعبها لإقامة دولة وطنية عليها، منقسمة إلى "كانتونين" منفصلين في حالة عداء على نحو يتجاوز أقصى ما توقعه أشد المتشائمين حين تصاعد الصراع بين الحركتين اللتين تتشاركان فى المسؤولية عن إحباط الانتفاضة الثانية وقيادتها باتجاه الفشل.
ولا سبيل، والحال هكذا، إلى انتفاضة جديدة في الاتجاه نفسه ليس فقط بسبب الانقسام الفلسطيني المشين، ولكن أيضاً لأن أحداً لم يهتم حتى الآن بمراجعة الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) بشجاعة واستقامة، والاعتراف بالأخطاء والخطايا التي حدثت فيها، واستخلاص الدروس التي تفيد في تعبيد الطريق أمام انتفاضة جديدة أكثر قابلية للنجاح.
لم يمتلك أحد، في "فتح" أو في "حماس"، أدنى شجاعة لتقييم نتائج عسكرة الانتفاضة وإبعاد جموع الشعب الفلسطيني عنها وحصرها في الأجنحة العسكرية للفصائل، وأحياناً في مجموعات صغيرة في بعض هذه الأجنحة حين ساد أسلوب العمليات الاستشهادية أو الانتحارية (حسب زاوية النظر) على حساب مختلف أشكال الكفاح المدني والمسلح على حد سواء.
لم يشرع أحد في أي من الحركتين، بأمانة وموضوعية، في مناقشة ما حدث في انتفاضة بدت مبشرة حين بدأت شعبية واسعة مفتوحة للأطفال والنساء، كما للرجال غير الأعضاء فى الأجنحة العسكرية للفصائل، ولكنها لم تلبث أن فقدت قوتها عندما تحولت إلى مواجهة مسلحة بالأساس، قبل أن يحفر قبرها من أصروا على أن تكون "القنابل البشرية" هي سلاحها الرئيسي.
ولذلك كان مفترضاً أن يحرص السيد خالد مشعل على مراجعة هذه التجربة المؤلمة القاسية، وأن يعترف بمسؤوليته وقيادة "حماس" إلى جانب قيادة "فتح"، عن تعريض الشعب الفلسطيني لمأساة لا قبل له بها وتخريب انتفاضته التي بدأت ارهاصاتها عقب فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية فى صيف 2000، ثم تصاعدت رداً على زيارة أرييل شارون المسلحة المستفزة للمسجد الأقصى.
أما وأنه لم يفعل، فما حديثه عن انتفاضة ثالثة ورابعة إلا جزء من المزايدات المرتبطة بالصراع الضاري بين حركتي "حماس" و"فتح" والسلطتين اللتين تسيطران على قطاع غزة والضفة الغربية.
وجاء حديث الانتفاضة هذا في سياق عودة "حماس" إلى التصعيد مجدداً، بالتوازي مع اتجاه تحالف 8 آذار في لبنان مرة أخرى إلى تعطيل الاستحقاق الرئاسي، بعد أن كانت الأجواء تحسنت في الحالتين على نحو آثار تفاؤلاً بقرب استئناف الحوار الداخلي في فلسطين وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً في لبنان، وذلك بالتزامن مع مشاركة سوريا في مؤتمر "أنابوليس".
وإذا صح هذا الارتباط بين موقف حركة "حماس"، أو التيار المهيمن عليها الآن، والموقف السوري الذي يسعى إلى استغلال الأزمتين الفلسطينية واللبنانية لمساومة واشنطن، تصبح الانتفاضة الثالثة ضرورية لإنقاذ القضية الكبرى التي تتحول على هذا النحو إلى جزء من صراع أوسع فى المنطقة، أو بالأحرى على المنطقة. ويزداد هذا الخطر حين نلاحظ، في الوقت نفسه، أن التيار المسيطر الآن على حركة "فتح" وسلطة الضفة الغربية يزداد اعتماده، في المقابل، على الولايات المتحدة والغرب.
فهل يبقى الشعب الفلسطيني، الذي دفع أثماناً لم يسبقها إليه شعب آخر في هذا العصر في سبيل قضيته الوطنية، متفرجاً على هذه القضية وهي تضيع يوماً بعد يوم؟ وهل يظل هذا الشعب الأبيّ الذي صمد صمود البواسل في أسوأ الظروف ممنوعاً من قول كلمته سواء فى قطاع غزة أو الضفة الغربية، خوفاً من قمع سلطتين تبُّز كل منها الأخرى في ممارساتها القمعية؟
المتشائمون يرون أن انصياع قطاع واسع من الفلسطينيين لسلطة "حماس" في غزة وسلطة "فتح" في الضفة، على نحو ما يظهر في قدرة كل منهما على حشد أعداد هائلة وراءها، يفيد أن هذا الشعب تغير إما إحباطاً ويأساً أو تعباً وانهاكاً.
ولكن من يعود إلى تاريخ الشعب الفلسطيني يعرف أنه كم من مرة بدا فيها كما لو أنه فقد عزيمته ووهنت قدرته واشتد عجزه. ولكنه لم يلبث، فى كل مرة، أن فاجأ من ظنوا فيه الظنون بروحه المتجددة التي أبقت قضيته حية فى أعتى الظروف.
ولذلك قد لا يمضي وقت طويل حتى يتحرك الشعب الفلسطيني لإصلاح ما أفسدته الفصائل التي سلمها قضيته، وينتفض لاستعادة الأمانة التي أودعها بين أيدي قادة ليسوا على مستوى المسؤولية. ولا يعني ذلك أن الانتفاضة الثالثة لن تكون ضد الاحتلال. فهي ستكون موجهة ضد الاحتلال بامتياز حين تُحيل من فشلوا في مواجهته إلى الاستيداع، وتفرز قادة جدداً قادرين على حفر مجرى التحرر الوطني من جديد وإعادة بناء مقومات النضال الفلسطيني.
فالانتفاضة ضد سلطتي "فتح" و"حماس" ليست منفصلة عن مواجهة الاحتلال، وإنما ستكون في قلب هذه المواجهة بمقدار ما تصلح ما أفسدته هاتان السلطتان اللتان تركتا الأبواب مشرعة للعدو الحقيقي ليقتحم ويقتل ويعتقل كما يشاء، بينما كل منهما معنية فقط بتوطيد أركانها وضمان أمنها ومنع أي تحرك شعبي معارض لها في منطقتها.