لعل أهم ما يعنيه تقرير الاستخبارات الأميركية الجديد، حول خطر التسلح النووي الإيراني، والذي جاء فيه أنّ إيران أوقفت برنامج التسلّح النووي، عام 2003، هو أنّ عقيدة "الحرب الوقائية" التي عمل "المحافظون الجدد"، على تطويرها وإعادة تعريفها، قد تعرضت لضربة جديدة. فإذا كانت فكرة "الضربة الاستباقية" ليست جديدة، فإنّ ما فعله "المحافظون الجدد"، في الفترة الأولى من عهد الرئيس جورج بوش، هو دمج هذه الفكرة بمبدأ "الحرب الوقائية". فالضربة الاستباقية تعني استخدام القوة العسكرية لإجهاض هجوم وشيك مؤكد. أمّا "المحافظون الجدد"، أنصار استخدام التفوق العسكري الأميركي استخداماً حقيقياً لتكريس القيادة الأميركية للعالم، فيريدون استخدام هذه القوة لمنع خطر ما حتى لو لم يكن وشيكاً. وقد استخدمت هذه العقيدة لتبرير الهجوم على العراق. ورغم أنّ مسؤولين أميركيين مثل ريتشارد كلارك، منسق الأمن القومي الأميركي، ومنسق مكافحة الإرهاب، بين عامي 1998 و2003، قال في مقالات وكتب إنّ الخطر الذي كان متبدياً من إيران كان أكبر منه في حالة العراق، فإنّ مؤيدي الحرب الوقائية في الإدارة الأميركية، واجهوا بسبب فشلهم بالعراق صعوبة في تكرار تسويق فكرة "الحرب الوقائية"، فعمدوا للتأكيد على أن الخطر الإيراني النووي، "وشيك"، وجاء تقرير الاستخبارات الأميركي المذكور ليدحض ذلك. التقرير في حقيقته يجب أن يزيد من حالة الشعور بالخطر، لأنّه يؤكد وجود برنامج تسلح نووي إيراني، استمر لعقدين من الزمن، وهذا يتعارض مع ادّعاءات طهران، بعدم وجود البرنامج أصلاً، ويتعارض مع ادّعاءات المرجعيات الدينية الإيرانية، أنّ التعاليم الإسلامية تمنع امتلاك هذه القنبلة. يضاف إلى ذلك أن جهود تخصيب اليورانيوم لم تتوقف، وجهود تطوير الصواريخ البالستية التي يمكن أن تحمل يوماً رؤوساً نووية مستمرة، ومخزون إيران من هذه الصواريخ هو الأكبر في الشرق الأوسط الآن. ولكن النتائج قصيرة الأمد للتقرير هي ما يزعج الإدارة الأميركية، ولن يتضرر من ذلك دعاة الحرب فقط، بل ودعاة الدبلوماسية أيضاً. فعلى الصعيد الدبلوماسي، فإنّ الحرب الوقائية، والسياسات أحادية الجانب عموماً، قد أصبحت أداة من أدوات السياسة الأميركية الخارجية، فالتلويح بالخيار العسكري، وبعقوبات أحادية الجانب، لم تكن تتضمن رسائل موجهة لطهران فقط، بل ولأوروبا والصين وروسيا أيضاً. فهذه الأطراف كانت تضع في حساباتها أنّها إذا لم تستجب لمطالب واشنطن وبعض حلفائها المتحمسين من مثل الرئيس الفرنسي الجديد، نيكولا ساركوزي، بفرض عقوبات إضافية على طهران، فإنّها تغامر بإعطاء المبررات لواشنطن لتبني سياسات أحادية الجانب، وتغامر بتقليص إضافي لدور وأهمية الأمم المتحدة، ولتكرار سابقة العراق، في استخدام القوة العسكريّة. ولاشك أنّ التقرير الاستخباراتي الجديد، يعني أنّ الخوف من "الحرب الوقائية" الأميركية لدى أوروبا والصين وروسيا أصبح أقل. لقد كان تعريف الحرب الوقائية أكثر اتساعاً منذ سنوات، بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، وكما كتب فرانسيس فوكوياما فإنّه "برأي الإدارة الأميركية، أصبح التمييز بين الضربة الاستباقية، والحرب الوقائية، في عصر الإرهاب المتسلح بالأسلحة النووية، لا معنى له، وهو ما يعني أيضاً قبول مسألة الدخول للدول ومنع الظروف التي تؤدي للإرهاب، وهو ما يتماشى مع مبدأ المحافظين الجدد حول أهمية نوع (النظام) السياسي في الدول المختلفة، وما يتعارض مع معاهدة ويستفاليا بشأن سيادة الدول والحكومات". لقد أسقطت حرب العراق، وصعود قوى مناهضة للولايات المتحدة من خلال صناديق الاقتراع في بلدان مختلفة، طموحات المحافظين الجدد، في استخدام القوة العسكرية لنشر "الديمقراطية الأميركية"، باعتبار ذلك جزءاً من وسائل الوقاية من أخطار محتملة ضد الولايات المتحدة، متمثلة في صعود قوى الإرهاب والعداء لأميركا. ثم يأتي الآن عدم التساوق بين المسؤولين السياسيين، وبين الاستخبارات الأميركية، التي أصبحت على ما يبدو -بعد حرب العراق- تخشى إعطاء أي مبرر لأي حرب، ليتم توجيه ضربة إضافية لمبدأ الحروب الوقائية، ولمبدأ استخدام القوة العسكرية ككل في مواجهة أخطار غير مؤكدة وغير محتمة. وهذا بمجمله يضعف استخدام القوة العسكرية كأداة ضغط دبلوماسي.