لا نظن أن البشرية الراهنة تلتقي في مسألة من المسائل الملحة بالنسبة إليها، أكثر من التقائها في مسألة "حقوق الإنسان"، ففي هذه الأخيرة تتجسد وتتكثف أعظم أحلامها وأكثرها أوّلية. بل لعلنا نرى أن المسألة المذكورة كانت وما تزال -ضمناً أو علناً- المِهماز، الذي قبع في قلب التاريخ محرّكاً وهادياً وضابطاً. أما السبب في ذلك فيقوم على أنه لم يوجد، ولعله لن يوجد أكبر من هذا الهدف أمام البشر، ذلك لأنه هو الأكثر قرباً ومباشرة من شروط وجودهم الطبيعي والمجتمعي، وبهذا الاعتبار، يغدو تاريخ البشر تاريخ كفاحهم من أجل الوصول إلى حقوقهم. من هنا، كانت المواقف والوثائق التي سجّلت لذلك التاريخ أول ما ينبغي أن يُقرَّ به على صعيد التأسيس لعلم التاريخ البشري. وبهذا الاعتبار، نلاحظ غياباً فاحشاً لهذا العلم في المؤسسات العلمية العربية، بل إن هذا الغياب يظهر خطيراً في المدارس من الابتدائية إلى الثانوية، حيث تُقدَّم مادة "تاريخية" تدمر الذاكرة التاريخية التحليلية لدى التلاميذ. ويهمنا في هذا اليوم الذي مرَّ علينا توّاً -وهو يوم العاشر من ديسمبر- أن نقف وقفة التأمل النقدي فيما هو قائم في العالم عموماً، ومن ضمنه العالم العربي، على صعيد حقوق الإنسان. فاليوم المذكور هو التاريخ الذي صدر فيه عام 1948 "بيان حقوق الإنسان" عن المنظمة الدولية للأمم المتحدة، ليسجل واحداً من أعظم الأيام التاريخية على صعيد ما نحن بصدده، بل لعله هو الأعظم ضمن هذه الأيام. وقد خلّدته الوثيقة، التي صدرت عن المنظمة الدولية، لتجعله في عصرنا الراهن دستوراً لشعوب العالم كلهم. وكانت قد سبقت هذه الوثيقة وثائق وكتابات ومواقف ألحت على حقوق الإنسان بأقلام علماء أكاديميين وسياسيين وتنويريين. ومهم أن نشير إلى عملين اثنين برزا بسطوع على هذا الصعيد، وهما كتاب الفيلسوف العربي ابن رشد من القرن الثاني عشر "شرح جمهورية أفلاطون"، و"العقد الاجتماعي" للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو من القرن الثامن عشر. أما الفكرة الرئيسة في هذا الحقل، فتتمثل في أن الإنسان هو، أولاً: معطى طبيعي ومجتمعي تتأسس خصائصه الفعلية قبل نشأة الدولة، حيث يكون مالكاً لحقوقه، من حيث الأساس. ولكن الدولة إذ تنشأ، تدخل في حياة المجتمع لكن لتُحدث فيه خللاً في ضبط الحقوق الإنسانية. ولهذا، يغدو مطلوباً أن يؤسس الناس "عقداً اجتماعياً" فيما بينهم، يقوم على الحرية في تحديد الوجود الاجتماعي، كما على المساواة فيما بين هؤلاء، ومن ثم، فإن وضع حدود لِتغوُّل الدولة، إنما يستلزم تكوين مثل ذلك العقد. وفي هذا السياق، فإن القولة التي أطلقها الخليفة عمر بن الخطاب بصيغة التقريع والمساءلة "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" تعبّر بعمق عن تلك الفكرة، دون وصول الخليفة إلى مفهوم العقد الاجتماعي المذكور: إن الناس من حيث الطبيعة، أحرار متساوون، ويصبحون غير أحرار وغير متساوين، مع نشأة "الغول الدولتي"، الذي يغدو من الواجب الوقوف في وجهه، فهو إذ يولد، فإنه يولد مُختَرقاً بالمصالح الكبرى والصغرى، التي يجعلها ذوو الثروة والسلطة متماهية به، بمقتضى مصالحهم، وانطلاقاً من طبيعة العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية المهيمنة في المجتمع المؤسس على التفاوت المجتمعي. وفي مسار الكفاح البشري من أجل الحرية والمساواة، يتضح أن ما يعمل البشر بشراً إنما هو ذاتيتهم وخصوصيتهم، أما ذاتيتهم فتتلخص في أنهم ناس، وفي أن هؤلاء أعلى الكائنات وأرقاها وأكثرها شعوراً بمن هم عليه، أي بما هم ناس يسعون إلى الحرية والعدالة والمساواة والسعادة، وبهذا يكون الإنسان أثمن رأسمال في العالم. لكن خصوصيتهم تُفصح عن نفسها في أنهم -بوصفهم ناساً- لا يوجدون إلا مشخَّصين في وجود اجتماعي وسياثقافي حقوقي وأخلاقي، أي في مجتمع يستمدون منه وفيه حقوقهم وواجباتهم. وقد اكتشفوا -في معمعان صراعات اجتماعية واقتصادية طبقية وسياسية- أنه لا سبيل إلى إغلاق هذه الصراعات، بقدر ما هم مدعوون إلى ضبطها سلمياً وعلى نحوٍ مثمر تاريخياً. فكان اكتشاف "العقد الاجتماعي"، الذي يضبط تلك الصراعات، ولا يُلغيها. لكنّ النُظم الدولتية لا تستجيب لهذه "النتيجة"، بل تصرّ على التهام كل شيء في المجتمع، مُستفِزّةً أولئك الذين يعيشون مرغمين على الاستباحة والصمت. (وقد كتبنا بحثاً مطولاً حول ما يمكن اعتباره امتداداً لمفهوم العقد الاجتماعي ضمن شروط ظهور التشدّد الخطير على الصعيد الديني خصوصاً، ومعه ظهور الدولة الأمنية، وكلا الموقفين ظلاميّ يرفض التعددية، أما عنوان البحث فهو: الوسطية). إن الاحتفاء بالذكرى التاسعة والخمسين لظهور "بيان حقوق الإنسان"، يأتي وجلُّ العالم العربي مُثقلٌ بانتهاكات حقوق الإنسان فيه اقتصاداً وسياسة وثقافة وقضاءً. فالسجون وقوانين الطوارئ والأحكام العرفية وانتهاك حقوق الأطفال والنساء والرجال وهيمنة الحزب الواحد وإغلاق المجتمع على أهله: هذا هو واقع الحال في أحوال يصح القول فيها: إنها الرهان على موت إنسانية الإنسان.