نشرنا في المقال السابق الجزء الأول من مقالة كنا نشرناها في مجلة "أقلام" المغربية في شهر إبريل من عام 1964 بعنوان "مسؤولية المثقفين في البلدان المتخلفة"، وكان ذلك في إطار الاستطرادات التي نغني بها هنا مقالتنا في ندوة "منتدى الاتحاد" والتي كانت في موضوع "المشهد الثقافي العربي منذ الخمسينيات". كان المقال يدور حول تحديد مفهوم "المثقف في البلدان المتخلفة" -كما كانت تدعى آنذاك- وفي هذا المقال نواصل الكلام في الموضوع فنقول: "والمثقفون، وهم الفئة الواعية التي أكسبتها ثقافتها موضوعية التفكير ووضوح الرؤية والقدرة على التحليل والمحاكمة المنطقية مما يجعلهم في حصن من أن تنطلي عليهم أساليب البرجوازية ومن أن يخيفهم تحكم المتسلطين، إن المثقفين هؤلاء، هم وحدهم القادرون على تصحيح وإغناء تلك الصورة الذهنية المثلى التي كانت تعطيها الجماهير لمفهوم الاستقلال أيام كانت تناضل من أجله ورسم الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس. لم يكن الاستقلال في الوعي الجماهيري يعني مجرد استبدال حكام دخلاء بحكام وطنيين فقط، بل أيضاً استبدال أوضاع متفسِّخة يسيطر فيها الظلم والحيف والفاقة والجهل، بأوضاع جديدة أساسها كرامة الفرد، وكرامة المجموع، أوضاع لا مكان فيها للظلم والتحكم والحرمان... ومن هنا نستشف بعض جوانب المسؤولية الملقاة على عاتق المثقف. إن تصحيح تلك الصورة يتطلب كمقدمة أساسية، تعرية الواقع المؤلم الذي تعيشه الجماهير، وتركيز مظالم هذا الواقع في بؤرة شعورها تركيزاً يجعلها تحيا هذه المظالم كجزء من ديمومتها، كما يتطلب فضح البرجوازية وأساليبها ودورها الوظيفي كعميل وسمسار للاستعمار وللقوى الأجنبية، وطرح مشكلة الإقطاع، أمام الفلاحين البؤساء، طرحاً يجعلهم يقتنعون بأن بؤسهم هذا ليس إلا نتيجة مباشرة لوجود الإقطاع، كما يتطلب أخيراً رسم طريق النضال الثوري الهادف لنسف هذا الواقع والشروع في بناء أوضاع جديدة تتحقق فيها آمال وأهداف الجماهير". يتضح مما تقدم أن دور المثقفين في الشعوب المتخلفة هو في الأساس دور طلائعي. وهو دور تدركه الجماهير ربما أكثر مما يعيه المثقفون أنفسهم: ذلك لأن الجماهير، وهي أمية، تنظر إلى المثقف على أنه "الإنسان الممتاز". فهي تضفي عليه أقصى ما يمكن أن تتخيله من درجات الفهم والعرفان والتفكير، وأبعد ما يمكن أن تتصوره من مناقب وأخلاق. وهي عندما تنزل المثقف مثل هذه المنزلة، لا ترى فيه شخصاً بعيداً منها منفصلاً عنها، بل بالعكس تحس به أقرب ما يكون إليها. إنها ترى فيه "صورتها النموذجية" تماماً كما يرى الأب في ابنه الصغير البريء صورته المثلى محملاً إياه جميع إمكانيات الخير والصلاح. وبعبارة أخرى إنها تعتبره نتاجها الخاص، ملكها الخاص، منقذها الذي صنعته بيدها وغذته بقلبها. إن الثقافة أمانة في عنق صاحبها، ومسؤولية حملها إياه المجتمع مقابل ذلك "الامتياز الثقافي" الذي يكسب المثقف اعتباراً وتقديراً. والجماهير تدرك بحدسها الفطري هذه الحقيقة، فهي ترى في المثقف واحداً من "بنيها" واتته الظروف ليأخذ أكثر بكثير مما أخذت هي من حق مشاع تتساوى فيه حقوق الجميع. لذلك فهي لا تفتأ تطالبه بالعطاء عطاء خصباً مسترسلاً، عطاء يتناسب مع أخذه، ذلك الكثير! فالمثقف مطالب دائماً، مدين أبداً، مسؤول دوماً. إنه في اعتبار الجماهير، بمثابة الطبيب الذي إن لم يعمل على استئصال الداء من الواقع المريض الذي تعيشه، فلا أقل من أن يرسم لها نظاماً (ريجيم) من شأنه أن يخفف من وطأة هذا الداء ريثما يتهيأ الدواء. ورغم أنه في كثير من الحالات قد لا يتمتع المثقف بالاستعدادات والمؤهلات الذاتية التي تمكنه من القيام بهذا الدور الطليعي، فإن الجماهير، شعوراً منها بذلك الامتياز الذي يتمتع به في الوقت الذي تحس فيه هي بمرارة الحرمان منه، لا ترحمه أبداً، ولا تفهم مطلقاً كيف يعقل أن تستغرقه دوامة عمله وأشغاله الخاصة وأن يتأخر، نتيجة لذلك، عن مركز الطليعة! إنها ترى فيه ذلك الابن الذي لا يمكن إلا أن يكون باراً بوالديه مضحياً من أجلهما، وإلا اتهمته بالعقوق، فتنفض يدها منه، ولكنها لا تملك عقاباً له إلا النظر إليه باحتقار ممزوج بالشعور بالخيبة. إن نظرة الجماهير إلى المثقف تضعه أمام مسؤوليات خطيرة: - إنه مسؤول عن نفسه. والقيام بهذه المسؤولية يتطلب منه أن يكون أخلاقياً طوية وسلوكاً، لا مجال للانتهازية والأنانية والانحراف في تصرفاته وسلوكه. - وهو مسؤول -بمعنى ما من المعاني- عن مجتمعه، وهذا يستلزم أن يعيش المثقف داخل المجتمع لا خارجه، يحيا آلامه وآماله، متحملاً النصيب الأوفر منها، شاعراً بها شعوراً عميقاً صادقاً فاعلاً. - وهو مسؤول -بشكل ما من الأشكال- عن المستقبل. وهذا يتطلب منه أن يكون عضواً فعالاً في صفوف الجماهير، وتتجلى فعاليته في كونه المحدد للهدف، الراسم لسبيله، الدافع إليه. فالمثقف ليس إنسان "القوقعة"، بل هو للآخرين وللمستقبل معاً بمقدار ما هو لنفسه: إنه كالمصباح ينير ذاته وينير محيطه فيهتدي بنوره هو والآخرون معه، في مسيرة يحتل مكان الطليعة فيها. إنها مسؤولية عظيمة ضخمة! على أن هناك حقيقة أخرى مهمة تزيد من ضخامة وعظمة هذه المسؤولية. وهي أن جل المثقفين في البلدان المتخلفة -إن لم نقل كلهم- هم شباب. وهنا تبدو مسؤولية الشباب مزعجة مخيفة. فالمثقف في هذه البلدان ليس مطالباً فقط بالقيام بدور طلائعي في ميدان الفكر والتوجيه، بل هو مطالب أيضاً بالعمل، فلا يقبل منه أن يقوم بدور المفكر الموجه الدافع من وراء حجاب. بل إن الاحتكاك الدائم بالجماهير، والعمل معها جنباً إلى جنب، متطلب أساسي من متطلبات المسؤولية التي على عاتقه. إنه السائق، وهو الوقود في آن واحد. ثقافته مقود، وشبابه قوة محركة دافعة. واضح أن هذه الصفات التي خلعناها على المثقف هي في الحقيقة صفات "المثقف الثوري". ولكن ماذا عسى أن يكون المثقف في البلدان المتخلفة إن لم يكن ثورياً؟! أيكون ذلك الذي أضاع ثقافته، وأضاع مسؤوليته، فأصبح لا يحسن إلا القراءة والكتابة، ويعيش بهذا الذي يحسنه منهما: أستاذاً أو موظفاً، غارقاً في فراغه، مجتراً لذكرياته -وما أتفهها- راكضاً وراء ما يسمى بـ"الأنديس" [الرقم الاستدلالي للراتب] والتعويضات؟! أم أنه هو ذاك الذي يعيش في نوع من "التعالي" خارج الدوامة، بعيداً عن واقعه وواقع مجتمعه، مستوعباً بشكل ما جانباً من جوانب ثقافة الماضي، أو متتبعاً بشكل ما جانباً من جوانب ثقافة العصر الحاضر، محلقاً في أجواء فكرية مجردة قد لا تنتهي به إلى هدف أو سبيل!؟ إن الثقافة التزام، والتزام يستمد أبعاده من الواقع ومن الشروط الضرورية لتغييره أو تحسينه. والواقع الذي تعيشه شعوب البلدان المتخلفة هو -كما وصفناه- واقع مريض، ليس في حاجة -بالطبع- إلى من يمتص دمه، ولا إلى من يعطيه أمثلة ودروساً في فن التجميل، وإنما هو في حاجة ملحة إلى إجراء عملية جراحية تستأصل الداء الخبيث من جسمه الغض! إن الثورية بعد أساسي من أبعاد كل مثقف يعيش -راضياً أو مكرهاً- في مجتمع متخلف، وبدونها يصبح لقيطاً طفيلياً، لصاً أنانياً، ربيباً للرجعية والبرجوازية والإقطاع، خطره على المجتمع أعظم وأهول من خطر هذا الثالوث اللعين". (خطاب الستينيات من القرن العشرين).