إلى متى تستمر مطحنة الإرهاب في لبنان تطحن القياداتِ والشخصياتِ السياسيةَ والأمنيةَ والإعلاميةَ والثقافيةَ والفكريةَ؟ إلى متى يبقى البلد مكشوفاً مفتوحاً لأصحاب هذه المطحنة؟ وأي تاريخ يصنع اللبنانيون؟ وكثيرون منهم إن لم يكن جميع المتوهمين أنهم صناع تاريخ في مواقع مختلفة ينسون التاريخ. وبالكاد يكونون صناع لحظة أو صناعاً في لحظة لكل شيء إلا لتاريخ له علاقة بالتاريخ وتجاربه. كأنهم لا يتعلمون أو لا يريدون أن يتعلموا من هذه التجارب ليستخلصوا العبر والدروس. ليس ثمة شيء أغلى من الدم. وليس ثمة حل في بلد مثل لبنان أغلى من الدم. لكن المفارقة أن الحلول لا تأتي إلا على الدم. فإلى متى؟ أهي القاعدة الوحيدة الثابتة في بلد الحرية والديمقراطية والحضارة والتنوع والخلق والإبداع؟ فأين الخلق والإبداع؟ وأين المبدعون؟ لا يمكن لبلد أن يعيش، وأبناؤه ينتظرون انفجاراً أو صاعقاً ينفجر هنا أو إشارة تصدر من هناك لإشعال فتنة وإحداث توتر. ولا يمكن لبلد أن يعيش أبناؤه متوترين، وأن يكون البعض منهم موتورين. ولا يمكن لبلد أن يستمر زرع الأحقاد فيه، فلا يحصد أبناؤه بالتأكيد إلا الويلات والكوارث. لقد آن الأوان لخروج لبنان من هذه المحنة. وهذا يتطلب شجاعة أدبية لدى كل السياسيين دون استثناء للتغلب على الذات أولاً. للتغلب على الشهوات والمصالح الضيقة والحسابات الصغيرة والخروج من نفق هذه اللعبة. فلا العناد والمكابرة والغرور والادعاء والشخصنة لكل شيء يمكن أن تؤدي إلى ذلك. لقد جربنا كل شيء وسقطنا وأسقطنا البلد في دوامات عنف وتوتر وقلق وانفعال، ولم نتعلم بعد. ولا نشعر بذلك إلا عند سقوط شهيد جديد، كأننا تحولنا إلى بلد يعدُّ فيه الشهداء للسقوط في غير المواقع التي يجب أن يسقطوا فيها، أي في مواقع النضال ضد العدو الواحد إسرائيل، وكأن الذين سقطوا في هذه المواقع أيضاً وحققوا إنجازات كبيرة تتم عملية تضييع إنجازاتهم والإساءة إليها بسبب سوء التصرف والإدارة من قبل قادتهم وبسبب تهور وانفعال الآخرين... فتحول إلى بلد يصنع إنجازات بدماء أبنائه، ويظهر وكأنه لا يستحقها وهذا أمر خطير جداً. أقول ذلك ونحن في فراغ رئاسي. وفراغ فعلي في المجلس النيابي. وأزمة كبرى في الحكومة وتشكيك بها. وينعكس كل ذلك على الأوضاع العامة في البلاد. وكأن ثمة من لا يريد ملء هذا الفراغ، لأن لديه حساباته الشخصية والسياسية القائمة على الانتقام من البلد أو من بعض أبنائه أو على الشهوة القاتلة للوصول إلى مواقع القرار في السلطة، وليس ثمة شيء ذو قيمة في مثل هذه الحالة، فكيف إذا كان الأمر الوحيد الذي يملأ هذا الفراغ هو الإرهاب؟ فهل ثمة أمر أخطر من ذلك؟ لقد ضرب الإرهاب وفي الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد النائب والصحفي جبران تويني، فنال من أبرز وأكفأ وألمع ضباط الجيش اللبناني والمرشح لقيادة الجيش بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، العميد الشهيد فرنسوا الحاج. ولاشك أن الضربة كانت موجعة. فهي رسالة إلى القائد -الرئيس المنتخب نظرياً تحت عنوان الوفاق والمؤجل تكريسه وتنصيبه- وإلى المؤسسة العسكرية وإلى الأمن في لبنان لاسيما أن هذه المؤسسة هي المؤسسة الأم المعنية بالمحافظة على الأمن والاستقرار في البلاد وهيبتها، واستهدافها اليوم يشكل صدمة لكل اللبنانيين ومحاولة إسقاط لآمالهم بإمكانية بقاء ضمانٍ مَّا لأمنهم في بلادهم. كذلك، فإن هذه الرسالة تشكل تهديداً فعلياً لكل من هو مرشح لمنصبٍ مَّا في الدولة. وبالتالي بات كل مرشح إلى موقعٍ مَّا مضطراً لإقامة حسابات كثيرة. وكأن ثمة من يريد تركيب دولة فريدة من الذين يخافون ويأمرون ولا يتحلون بالشجاعة. دولة يجب أن تبقى مكتوفة مكبوتة مخنوقة، وأبناؤها أصحاب الكفاءات والعطاءات والطموحات والإمكانات مشاريع شهداء فقط أو مهجرون إلى الخارج... أهذا هو لبنان؟ أهذا هو لبنان الوعد لمن هم في هذا الفريق السياسي أو ذاك؟ وهل يستطيع أحد الادعاء بأن في مثل هذه الحال مصلحةً لأبنائه؟ أليس الجميع قلقاً على أمن أولاده الذاهبين إلى المدارس والجامعات؟ وعلى أمن أهله الذاهبين إلى مراكز الإنتاج والعمل -ما تبقى منها- لتحصيل لقمة عيش كريمة؟ وعلى الأقارب والأحباء في كل مكان؟ هل يستطيع أحد الادعاء بأنه خارج دائرة القلق هذه؟ فإلى أين إذاً؟ ولماذا لعبة عض الأصابع؟ وهل نبقى ننتظر بعضنا لنرى من سيقول "آخ" قبل الآخر ونحن نسمع كل المناطق وكل اللبنانيين يقولون "آخ" لأسباب عديدة؟ ليس ثمة أمام اللبنانيين إلا التسوية. والتسوية بحاجة إلى رجال شجعان يقرون بالحقائق ويتصرفون بضمير. والتسوية ليست عيباً أو تنازلاً أو تراجعاً. التسوية ضرورة في مراحل كثيرة. وهي تعبر عن حكمة القيادة السياسية أينما كانت لا عن تخاذلها وميلها إلى المساومة. التسوية هي نتاج حساب الوقائع والمعطيات والحقائق التي هي العناصر المكونة للسياسة وللقرار السياسي. وعلى هذا الأساس يجب التصرف. ليس مقبولاً استمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية. وما دام الاتفاق قد تم على مرشح التوافق العماد ميشال سليمان، فليذهب الجميع إلى تكريس هذا الخيار، ولندخل إلى المرحلة الثانية بتسمية رئيس للحكومة وتشكيل الحكومة، محترمين الدستور وآخذين بعين الاعتبار ضرورة حماية لبنان وملء الفراغات وسد كل النوافذ والأبواب، التي يمكن أن يدخل منها أعداء لبنان وحريته واستقلاله وأمن واستقرار اللبنانيين!