منذ عقود من الزمن، وبالتحديد مع بدايات توافر عوائد حقبة النفط، انطلقت منظومة التعمير في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، نتيجة للخطط العمرانية والتنموية الطموحة التي انتهجتها دول الخليج في تلك الفترة، وكان مرتكزها الأساسي العمالة الوافدة في كثير من التخصصات، خاصة الفنية منها، نتيجة لأن العمالة الوطنية لم تكن متاحة في كافة الدول الخليجية بالكم والكيف الملائمين لقطاعات التنمية المختلفة. لذلك انتشر الوافدون في كافة مجالات البناء، بدءاً من التصميم المعماري وتخطيط البنية التحتية، حتى مرحلة التسليم النهائي، مروراً بأعمال الحفر ورمي الأساسات والتوصيلات وتشييد الهياكل، والأعمال الأخرى المتممة للبناء، وامتد الأمر ليشمل معظم نواحي الحياة الاقتصادية والإعلامية، الأمر الذي فرض وجود عمالة وافدة كثيفة الحجم في مختلف الأنشطة والأعمال، كان بعضها محترفاً في حين كان أكثرها ضعيفاً ويفتقر إلى الخبرة العملية، دفعته ظروف مجتمعه إلى البحث عن أي مورد رزق، لذلك فقد تعلم من أخطائه بعد أن أصبحت دول الخليج ميداناً للتجارب التي تحملها المجتمع الخليجي بكل رحابة صدر ودفع ثمنها مادياً ومعنوياً. وبعد أن كان حجم العمالة الوافدة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي يراوح بين 18% و20% من إجمالي سكان دول مجلس التعاون الخليجي، أصبح في بداية القرن الحادي والعشرين يراوح بين 40% و80% في بعض دول المجلس، وبعد أن كانت التحويلات المالية لهذه العمالة لا تزيد على 8.5 مليون دولار في السبعينيات من القرن العشرين، أصبحت أكثر من 59 مليار دولار في عام 2006. ورغم أن العمالة الوافدة ظاهرة موجودة في كل دول العالم تقريباً، إلا أنها اكتسبت في منطقة الخليج أبعاداً خاصة، حيث ازداد الاعتماد على هذه النوعية من العمالة، في مقابل تهميش دور العمالة الوطنية التي تركزت في الوظائف الحكومية، وتكدست في أروقة الهيئات والإدارات الرسمية للدول، وتفاقمت ظاهرة البطالة بين المواطنين. إن العمالة الوافدة، والتي هي في الغالب عمالة غير ماهرة، تتسم بتدني إنتاجيتها مقارنة بالعمالة في دول أخرى مثل سنغافورة وهونج كونج وشيلي والمكسيك، كما أن الإنفاق على الأجور والرواتب يعتبر مصدر ضغط كبير على الموازنة العامة للدول الخليجية، إذ أنه يشكل بنداً رئيسياً من بنود الإنفاق العام. وقد ترتب على الزيادة الهائلة في الاعتماد على العمالة الوافدة خلل كبير في توازن التركيبة السكانية في بعض دول الخليج، وانعكس ذلك في ظواهر سلبية وتداعيات متعددة وفي مجالات مختلفة، لها آثار قريبة ومتوسطة المدى. أما التداعيات الاجتماعية على المجتمع الخليجي، فهي واضحة وجلية في ظاهرة عدم تجانس التركيبة السكانية سياسياً وثقافياً واجتماعياً وديموجرافياً، الأمر الذي يؤثر في الهوية الوطنية وسماتها الرئيسية، ويؤدي إلى إجبار المواطنين على استخدام لغات ولهجات ومصطلحات يومية دخيلة على المجتمعات الخليجية، مما أثر سلبياً وبشدة في اللغة واللهجة الأصلية، وقاد إلى نشر أشكال وأنماط من الثقافة والتعليم جديدة على دول المنطقة، وفي أحيان كثيرة دفع ذلك المواطنين إلى التفكير في تشكيل مجتمعات خاصة بهم، والعيش في مناطق منعزلة. أما الانعكاسات الاقتصادية فتظهر بوضوح في الضغط على الخدمات العامة والبنية التحتية، مثل المياه والكهرباء والإسكان والمواصلات والصحة والتعليم والترفيه والأمن، مما أثر في ميزانيات الحكومات الخليجية، وأدى إلى تضخم غير مسبوق تصعب السيطرة عليه، حيث تستفيد العمالة الوافدة من هذه الخدمات، نتيجة لزيادة عددها، أكثر من المواطنين الذين أصبحوا ضيوفاً في أوطانهم، وتقف المعدلات المرتفعة لتدوير العمالة، وتدني مستوى المهارات وراء ضعف الإنتاجية وتراجع مستوى قطاعات الاقتصاد الوطني، وعدم تطورها ومواءمتها للمعايير التنافسية في الأسواق العالمية. كذلك شهد الميزان التجاري للدول المستقبلة للعمالة الكثيفة عجزاً ملحوظاً ومستمراً نتيجة التوسع في عمليات الاستيراد من الخارج لسد الحاجات الغذائية والاستهلاكية للوافدين، ومن الغريب أن العمالة الوافدة بدأت تحتكر أنشطة اقتصادية بعينها وباتت تتحكم فيها، وبذلك خرجت هذه العمالة عن نطاق المهام والعقود التي جرى استقدامها وفقاً لها. أما الآثار الأمنية فهي أكثر وضوحاً في زيادة نفقات الأمن الداخلي، وزيادة أعداد رجال الشرطة وأعبائهم، والحاجة إلى مراقبة أماكن تجمعات الوافدين، كما تحملت المجتمعات الخليجية ثمن الصراعات الطائفية والسياسية بين بعض الجاليات الآسيوية، وبين الجاليات الآسيوية والعربية مثلما حدث في الكويت عام 2002. ومع تدفق العمالة ازدادت معدلات الاتجار في التأشيرات، والوجود غير القانوني، وارتفعت نسبة الجريمة والانحراف والنصب والتزوير والاتجار في المخدرات وغسيل الأموال والجريمة المنظمة. أما بالنسبة للتداعيات السياسية فهي الأكثر خطورة، نتيجة لانتشار المخاوف من مطالبة العمالة الوافدة بحقوق سياسية معينة، أو نشر أيديولوجيات سياسية، بل ودفعت بدول مجلس التعاون لتكون محط أنظار لجان ومجالس مراقبة حقوق الإنسان، والزج باتهامات عدائية لها، ونشر أخبار مغرضة عن دول المجلس، وعدم الاعتراف بأن العمالة الوافدة في دول الخليج عمالة "مؤقتة" تنظمها عقود مهما طال بها زمن العمل، وليست عمالة "مهاجرة" تبحث عن الاستقرار. والخلاف هنا ليس في التسمية بقدر ما أنه يسمح لجهات أجنبية بالضغط على حكومات دول الخليج لأغراض سياسية تحت دعاوى مختلفة. وقد تحملت دول الخليج العربية بصبر وتضحية وجهد كبير، مادي ومعنوي، كل هذه السلبيات والتداعيات والآثار، وبذلت ما تستطيع للحد منها، لكن كل هذا لم يشفع لها في الأحداث الأخيرة عندما انتقلت العمالة من التعمير إلى التدمير، حيث تصاعدت حدة المظاهرات، وانتقلت من التظاهرات السلمية إلى الفوضى وتدمير المال العام ومهاجمة عناصر الشرطة، وتعطيل العمل، وهنا لا نبرئ الشركات التي تعمل بها هذه العمالة من كونها السبب الرئيس وراء ما حدث، بعدم مراعاتها مشكلات العمال وظروفهم المعيشية. لقد بات الوضع في حاجة إلى حسم إداري وأمني، بوضع استراتيجية متكاملة لسوق العمل، على المستويين الخليجي والمحلي، تطرح حلولاً جذرية لعلاج الظاهرة وتداعياتها، تعتمد على تحديد الاحتياجات الفعلية لسوق العمل، من خلال إعادة النظر في التشريعات القائمة المنظمة لاستقدام وعمل العمالة، ولا بد أن تكون هناك مواصفات ومعايير معينة خاصة بدول مجلس التعاون لنوعية العمالة المطلوبة للارتقاء بالمجتمع من جميع النواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وتقديم أفضل الخدمات، لأن العمالة الأمية والمتدنية المهارة ستؤدي إلى تراجع مستوى التنمية من ناحية، ولن تضمن الحفاظ على مكتسبات المجتمع من ناحية أخرى. فهناك حاجة لإصدار تشريعات تضمن حقوق العمالة وأمنها الوظيفي، وتنظم مدة عملها، والحد الأدنى من الأجور، وإزالة القيود على انتقال العمالة، وربط التسهيلات الحكومية للقطاع الخاص بتحمل جزء من تكلفة استهلاك البنية التحتية من جانب، وزيادة التوطين في الوظائف من جانب آخر، كما تضمن في الوقت نفسه حقوق المجتمع وأمنه والمحاسبة الشديدة لكل من يخرج على النظام العام. كما أن هناك حاجة لتحقيق التوازن بين جنسيات العمالة الوافدة بحيث لا يسمح بخلل لصالح جنسية معينة على حساب الجنسيات الأخرى، بالاعتماد على نظام الحصص لكل جنسية، للحد من سيطرة جنسيات بعينها على وظائف محددة أو أنشطة معينة، وفي المقابل يجب تطوير أساليب استقدام العمالة، من خلال تشكيل شركات لاستقدام العمالة وفق احتياجات سوق العمل. لقد آن الأوان لنظرة شاملة ومتكاملة لسوق العمل لا تركز على علاج جزئي لبعض المشكلات القائمة، بل تعتمد على النظرة الكلية التي تضمن الحفاظ على سمعة الدولة وصورتها الخارجية، وتمنع تحول العمالة الوافدة من التعمير إلى التدمير.