يقول الفيلسوف "نيتشه" إن القضايا الكبرى مثل الحمَّام البارد من الأفضل الخروج منه بأسرع من دخوله. وسوف أحاول أن أدخل في موضوعنا الذي يتصل بقضية كبرى بسرعة، ولكنني لا أدري إن كنت سأوفق في الخروج منه بالسرعة نفسها. إن القضية الكبرى في حديثي اليوم هي التعليم بل المعرفة.. وأظنه من الحكمة أن يكون استكمالاً لما طرحته معكم خلال الأعمدة الماضية. فعلاً إنها القضية الأم والقضية الأكبر في عالمنا العربي، هي المعرفة وبالتالي "التعليم" إذا أمكن أن نعتبره "وعاء المعرفة". تأثرت جداً من عمود لكاتب إماراتي فعلاً يعبر عن واقعنا الاجتماعي. تجلٍّ صادق، وقلم أصدق بولاء للوطن ليست له حدود. ما فتئت أقرأ له منذ بداية عصارات جهده وعقله وحتى الآن، وأشعر عندما أقرأ له ولغيره من الزملاء في الإمارات كُتاب الأعمدة اليومية، أشعر أن الوطن ما زال ينبض بالصحة والعافية. إذاً الموضوع الذي أثاره العمود كان عن الأصفار التي حصل عليها بعض طلاب المدارس في الدولة، المدارس من دون مدرسين... لذلك أقول إن أخطاء التعليم ليس سببها انعدام المفكرين التعليميين إن صح التعبير وإنما الإدارة "الإدارات التعليمية" هي التي تعاني من الفشل. وإذا أردنا أن نعرِّف بالمفكرين التعليميين فهم هؤلاء الذين يرسمون الإطار المرجعي من قيم ومعايير وأساليب في التفكير، ومن إصدار أحكام تتجاوز الواقع المعيشي، وتترسم حدود المخيلة الاجتماعية بما في ذلك العلوم بفروعها الثلاثة: الطبيعية والاجتماعية والإنسانية. والفكر تحديداً يتجاوز المفكر إلى الحركات والمدارس الفكرية. إذاً مشكلة مدارسنا ليست نتيجة صنع المنهج، بل من يدير الهيئة بأكملها.. فإدارة التعليم لا يمكن أن تكون أو تعطى لمدير درس الإدارة وحدها مثلاً بل لابد أن تكون لإنسان قرأ من المعرفة، إنسان شمولي المعرفة، إنسان شمولي التفكير، إنسان ذي رؤية مستقبلية، إنسان يفكر، إنسان لا يهمه الحضور بل يهمه الغياب بين صفحات الكتب، يقرأ، ينتج المخيلة الاجتماعية، وينتج الفكر. إنسان يفكر دائماً وأبداً، بل لا يتوقف عن التفكير في صناعة ثقافة للتعليم ورؤية وينتج أجيالاً جميلة قارئة مفكرة ماهرة عظيمة بعظمة دولتنا الإمارات. إنسان يستطيع أن يفتح الحدود والتجليات الفكرية "حدود الفكر الممكن التفكير فيه" بل يخلق مناخ التفكير الحر المفتوح دون حدود. أمر ينتج المعرفة من خلال أطر للتعليم والأخلاق والثقافة. أن يخلق ما يسمى بـ"ديمقراطية التعليم"، أن يكون مثقفاً مفكراً حراً جريئاً كاتباً، هذه هي صفات من ينبغي عليه الاضطلاع بمهمة التعليم وإدارته، فهل" قضية أن يحصل أبناؤنا على الأصفار" هيِّنة وسهلة في رأي من يدير المدارس في وطننا؟.. هل الأصفار هي التي ستخلق عالم المعرفة الذي سعت إليه دولتنا ووضعت له المليارات؟ هل أجيالنا وشبابنا وخيرة الطاقات الكامنة لا تستحق من وزير التربية أن يقف متألماً ومتأملاً الأصفار هذه؟ إنما هناك قضية أخرى مرتبطة بأصفار طلاب المدارس، إنهم الأساتذة المعلمون التائهون في صحراء الفراغ الفكري، إنهم العاطلون عن الإنتاج المعرفي، إنهم من يفتقدون إلى الإجابات لأسئلتهم الحائرة. إنهم الطاقات الساكنة في مكانها، إنهم خريجو جامعة الإمارات وغيرها من جامعاتنا الوطنية، إنهم العاطلون عن بذل الجهود لأن وزارتنا لم تنظر حالهم بعد. هل يعقل أن يكون في الإمارات عاطل أو عاطلة مواطنة، ويكون فيها في ذات الوقت تضخم في العمالة المهاجرة.. هل يعقل ذلك؟ إذا لم نفتح الأسئلة بالقوة فلن نجد الإجابة. إن عالم المعرفة الذي يسعى إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، هو عالم الثورة على كل ما هو موجود في نظامنا التعليمي بالدولة، هو عالم يتطلب المفكرين والكتاب والمثقفين وأصحاب النوايا الحسنة (نوايا المواطنة) وليست (نوايا المواطنة العالمية) إننا جزء من هذا العالم صحيح، ولكننا في ذات الوقت نحن (كل في وطننا)، هل نستطيع أن نفهم هذه المعادلة؟ ولن نفهم هذه المعادلة ما لم نفهم ماذا يعني أن نكون جزءاً أم كلاً.. نحن كل، نحن وطن جميل، نحن دولة الإمارات العربية المتحدة. نحن ذاتٌ قائمة بذاتها لا ينبغي أن تكون جزءاً فقط. لهذا كله دعوت في المقالتين السابقتين إلى الخروج من حفلة الترف الكبرى إلى حفلة الإنتاج الفكري، ولن ندخل هذه الحفلة ونحن نحمل الأصفار بيدينا وبعقولنا، بل يجب أن نحمل الأثقال المعرفية والفكرية.