قام الفكر الصهيوني على إنشاء دولة إسرائيل الكبرى ذات الهوية اليهودية النقية التي يجب أن تبقى الأقوى والمتفوقة حضارياً في المنطقة، حيث يتطلب الأمر إعادة صياغة "تكوين" المنطقة العربية. فالموقف الصهيوني من الوحدة العربية ينبع من اعتقاد إسرائيل بخطورة مشروع تلك الوحدة على وجودها واستمرارها. لذلك، لطالما دعمت الصهيونية مشاريع تفتيت المنطقة وتغيير هويتها من قاسمها المشترك العربي الإسلامي إلى حفنة من الهويات الطائفية والإثنية. وهذه "الرؤيا" الصهيونية انطلقت من فكر المؤسس الأول للصهيونية السياسية (تيودور هرتزل) الذي أعلن عنها صراحة عام 1904 حين قال: "لقد تحدثنا في الأمر، نريدها من النيل إلى الفرات. إن ما يلزمنا ليس الجزيرة العربية الموحدة، وإنما الجزيرة العربية الضعيفة المشتتة المقسمة والمحرومة من إمكان الاتحاد ضدنا". إذن تكمن خطورة المشروع الصهيوني في أنه يتعدى فلسطين ليمسّ الأمن القومي للبلدان العربية. وهو مشروع غير معني فقط بإنشاء دولة يهودية في فلسطين وإنما أيضاً بإضعاف العالم العربي وتمزيقه وتجزئته وإبقائه في دائرة التبعية والتخلف، مما يسمح لتلك الدولة بأن تلعب الدور "السيادي" السياسي والاقتصادي والأمني بل وحتى الثقافي على امتداد المنطقة العربية، بل الشرق أوسطية الأوسع. في يونيو 2003 أعادت مجلة "إكسكيوتف إنتلجنت ريسرش بروجكت" (التي تصدرها وزارة الدفاع الأميركية) نشر المشروع الخطير الذي اقترحه المؤرخ الصهيوني الأميركي الشهير "برنارد لويس" والذي اقترح فيه تقسيم الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة إثنية ومذهبية لحماية المصالح الأميركية وإسرائيل. ويتضمن المخطط تجزئة العراق إلى ثلاث دويلات، وإيران إلى أربع، وسوريا إلى ثلاث، والأردن إلى دويلتين، ولبنان إلى خمس دويلات، والسودان إلى أربع، وتجزئة السعودية إلى دويلات عدة... إلخ. كما يرى (لويس) أن كل الكيانات ستشلّها الخلافات الطائفية والمذهبية، والصراع على النفط والمياه والحدود والحكم، وهذا ما سيضمن تفوّق إسرائيل في الخمسين سنة القادمة على الأقل. ثمة دراسة استراتيجية خطيرة وضعها الكاتب الصهيوني "عوديد ينون"، وقدّمها لوزارتي الخارجية و"الدفاع" الإسرائيليتين، ونشرت في فبراير 1982. أما خطورة الدراسة فتنبع من كون "ينون" يرى أن اتفاق كامب ديفيد مع مصر كان "خطيئة ارتكبتها إسرائيل"، و"أن إصلاح ما تسبب فيه الاتفاق من ضرر لإسرائيل يأتي من خلال السعي الحثيث لتجزئة مصر إلى أربع دويلات: قبطية في الشمال وعاصمتها الإسكندرية، ونوبية عاصمتها أسوان في الجنوب، ومسلمة عاصمتها القاهرة، ورابعة تحت النفوذ الإسرائيلي". كما تحدث "ينون" عن "تقسيم لبنان إلى سبعة كانتونات، والسودان إلى ثلاثة، وسوريا إلى أربعة". ودعا إلى "تفتيت العراق لأن قوته تشكل على المدى القصير خطراً أكبر من أي خطر على إسرائيل". كما تحدث "ينون" عن "تفتيت الخليج، وإذابة الأردن في إسرائيل". وفي عام 1985، صدر كتاب عن رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي يتضمن المخططات نفسها التي جاءت في دراسة "ينون"، وتحدث عن "المساعي الإسرائيلية في ضرب العراق وتفتيته"، ثم عاد ليستعرض بشكل أكثر تفصيلاً المشاريع الإسرائيلية "لتفتيت سوريا ولبنان والجزائر والسودان والخليج العربي". وفي هذا السياق الواضح، يمكن الإشارة إلى الندوة التي عقدت في "مركز دايان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا" التابع لجامعة تل أبيب عام 1990 تحت عنوان "تفتيت المنطقة العربية"، وإلى ندوة نظمتها جامعة "بارايلان" الإسرائيلية عام 1992 وأوصت بزيادة تكثيف الجهود لتفتيت الدول العربية. كما يجب أن لا ننسى أن مشروع تفكيك الوطن العربي هو مشروع قديم. ولعل من أقدم الوثائق الصهيونية التي تتحدث رسمياً عن تفكيك الوطن العربي هي تلك التي عرفت باسم "وثيقة كارينجا" المنسوبة إلى اسم الصحافي الهندي الذي أعطاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وثيقة "هيئة الأركان الإسرائيلية" حول تفكيك المنطقة، فنشرها في عام 1957. وهي وثيقة مؤداها بالنص الحرفي "إنشاء دولة درزية في منطقة الصحراء وجبل تدمر، ودولة شيعية في جبل عامل ونواحيه في لبنان، ودولة مارونية في جبل لبنان، ودولة علوية في اللاذقية حتى حدود تركيا، ودولة كردية في شمال العراق، ودولة أو منطقة ذات استقلال ذاتي للأقباط". إن مشروع تفتيت المنطقة وتغيير هويتها قديم جديد. فالفكر الصهيوني القائم على إنشاء دولة إسرائيل الكبرى ذات الهوية اليهودية النقية يستلزم بقاءها الأقوى والمتفوقة "حضاريا" وعلمياً في المنطقة. ويكفي أن نتذكر موقف إسرائيل من الوحدة بين مصر وسوريا (1958-1961)، وشعورها بالخطر على نفسها حينذاك. ومن الطبيعي أن يكون الهدف الدائم من وراء ذلك منع قيام أي شكل من أشكال التكامل العربي حتى في حدوده الدنيا. وفي مثل هذه الشروط بالذات، يكون للولايات المتحدة مباشرة، ومن خلال إسرائيل كلما أرادت، الدور الأساسي المقرر سياسياً واقتصادياً وأمنياً، بما يحقق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية ويثبت السيطرة الإسرائيلية في المنطقة. وبذلك، فإن مشروع "الشرق أوسط" هو مشروع صهيوني أميركي في الأساس، يستهدف ترتيب أوضاع المنطقة كلها ولمصلحة تحالفهما الوطيد. وعليه، فإن خلاصة ما طرح وما يزال يطرح من مشاريع صهيونية أميركية، يثبت مساعي دفع المنطقة العربية في طريق التفتت أكثر وأكثر عبر إعادة تركيبها في إطار النظام الشرق أوسطي الجديد، وذلك من خلال بناء منظومات ومناطق للتعاون الاقتصادي والعربي، وفصل بلدان المشرق عن بلدان المغرب العربي، وشمول إسرائيل بالمشرق الجديد بحيث تكون في أساس نسق تعاون اقتصادي وأمني، وفصل العراق عن المنظومة العربية وعن الهلال الخصيب ودمجه في منظومة أمنية إقليمية تشتمل على الخليج وربما إيران وجمهوريات إسلامية مستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق، ودمج بلدان المغرب العربي في فضاء عالم البحر المتوسط، وعزل وتهميش بلدان الأطراف والسودان والصومال واليمن وضمها إلى منظومات خاصة بأفريقيا والقرن الأفريقي، وأخيراً تحويل فلسطين إلى معبر بين الوطن العربي وإسرائيل. وللأسف، ثمة شواهد متزايدة على أن كل ما سبق هو بانوراما للسياسة الدائرة على أرض الواقع الآن، باعتبار أن "الأمن الحقيقي" لإسرائيل لا يمكن أن يتحقق طالما للمنطقة هوية عربية إسلامية، وطالما أن فيها دولاً عربية كبيرة نسبياً. إذن يقتضي "الأمن المطلق" للدولة الصهيونية، تغيير هوية المنطقة الحضارية إلى "شرق أوسطية"، وتغيير تركيبتها السياسية والاجتماعية إلى فسيفساء طائفية وإقليمية وجهوية تجعل من الدولة الصهيونية اليهودية الدولة الطائفية الأقوى بما لا يقارن وبالتالي بدون أي منازع.