لم يحدث في تاريخ الدراما التلفزيونية العربية أن تحول مسلسل إلى قضية خلافية سياسية بالقدر الذي شهدناه بعد مسلسل "الملك فاروق"، ذلك أنه رغم مرور أسبوعين على نهاية عرضه لا يزال الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية يتصاعد حول دلالاته في معظم الصحف وبرامج التلفزيون الحوارية في مصر. هناك سؤال جوهري يدور الجدل حوله وتنطلق منه أسئلة أخرى: السؤال هو: هل جاء المسلسل ليقدم صورة بريئة نقية من الأخطاء للملك الشاب على عكس الصورة الجانية السوداء التي قدمها إعلاميو ثورة يوليو 1952، للتنفير من الرجل وعائلته وعرشه؟ ينطلق هذا السؤال من بناء المسلسل الذي أصاب، عندما كشف عن براءة الرجل من الأخطاء السياسية الكبرى في المرحلة الأولى من حكمه حتى منتصف الأربعينات، وجسد روحه الوطنية الباحثة عن حرية مصر من براثن الاحتلال البريطاني لدرجة المخاطرة بنفسه وعرشه بإقامة قناة اتصال سرية مع هتلر ضد الإنجليز. غير أن السياق الدرامي للمسلسل لم يكشف بشكل كاف عن التحول الذي وقع في شخصية فاروق بعد هزيمة هتلر وفقد الأمل في إيجاد حليف دولي قادر على زحزحة الاحتلال البريطاني. إن معظم كتب التاريخ المحايدة تضع فاصلاً بين المرحلتين، مرحلة ما قبل سقوط هتلر وبعده، في المرحلة الثانية استولت على فاروق الرغبة في الانتقام من النحاس باشا زعيم حزب "الوفد" لقبوله تشكيل الحكومة عام 1942، في خضم الحرب على وقع الدبابات البريطانية التي حاصرت قصر عابدين لتفرض على فاروق إصدار مرسوم بتكليف النحاس كرئيس للوزراء. عندما انتهت الحرب وتلاشت حاجة بريطانيا إلى النحاس المعادي لهتلر، وجد فاروق أنه من السهل أن يطيح بحكومة "الوفد" التي كانت قد حصلت على الأغلبية في الانتخابات وراح يعين وزارات أقلية منسجمة مع رغباته ومستعدة لتمكينه من ممارسات تنفيذية لا يعطيها له الدستور. إذاً يمكن القول إن فاروق في نزوعه للانتقام من حزب الأغلبية الوفدي، كان مدفوعاً بالرغبة في الثأر من ناحية، وفي نفس الوقت استخدم الانتقام لتعزيز سلطته عن طريق حكومات الأقلية. وفي الحقيقة أن العمل التلفزيوني لم يغفل تماماً إبراز هذا التوجه لدى فاروق، وإن مر عليه مروراً هيناً على عكس الإفاضة التي تعامل بها مع مرحلة البراءة الأولى، وهذا تقديري الشخصي. لقد تحولت القضية إلى حالة استقطاب حادة بين أنصار ثورة يوليو وبين الراغبين في رؤية صورة متوازنة للتاريخ، ومن هنا انطلقت بعض الأقلام لإبراز السمات السلبية للمرحلة الثانية وتعميمها على صورة فاروق في محاولة لطمس الأثر الإيجابي الذي تركه المسلسل، وهو ما استدعى بعض الأقلام الرافضة للثورة لتكريس الملامح الإيجابية للملك فاروق ولطابع الحريات في عهده. صحيح أن حالة الجدل والاستقطاب في حد ذاتها تمثل شهادة نجاح للعمل الدرامي ولقدرته على إطلاق حالة المراجعة التاريخية والجدل والمقارنات بين سلبيات وإيجابيات العصر الملكي والعصر الثوري، وهو أمر يستوجب التوقف ملياً أمام أهمية الدراما التلفزيونية التاريخية وقدرتها على تفتيح شهية المعرفة والبحث عن الحقيقة. إن علينا الاعتراف بأن ضعف توزيع الكتاب في عالمنا العربي قد جعل التلفزيون اليوم أهم وسائل التثقيف وتشكيل الوعي لدى ملايين المشاهدين الصغار والكبار على حد سواء، وهو ما يضع على عاتق مؤسساتنا مهمة العناية بالتاريخ العربي عامة ومفاصله الرئيسية، ويستوجب مني التقدير للفريق الذي قدم للمشاهدين هذه الحالة من التأمل التاريخي، وكذلك يقتضي الإشادة بالجمهور الواسع المتطلع للمعرفة. في حوار مع عدد من زملائي أساتذة التاريخ العربي الحديث، قال بعضهم في نقد المسلسل: إن عدم التوازن بين سلبيات فاروق وإيجابياته يؤكد لديهم قناعة بأن الجمهور لا يجب أن يستقي معرفته التاريخية من الدراما، حيث إن الدراما تحمل رؤية مؤلفها ومخرجها للوقائع التاريخية، واقترح بعضهم التحول إلى ما يسمى الدراما الوثائقية كبديل موثوق. إنهم يطالبون بأن يقوم المؤرخون بكتابة سيناريو العمل ويتولون دور الراوي الذي يربط بين مشاهد تمثيلية لبعض المشاهد الموثقة ليجمع العمل بين التوثيق التاريخي ومتعة الدراما. لقد رويت لأصدقائي المؤرخين الحوار التالي الذي دار بين ابنتي الصغرى أمنية وصديقتها اللبنانية لورين، وكلتاهما في الثامنة من العمر! قالت لورين: "إنني أحب الملك فاروق جداً يا أمنية"، وردت أمنية "وأنا كمان أحبه لكن كان بيحشر نفسه في شغل النحاس باشا"، وقالت لورين: "أنا زعلت جداً من مامته الملكة نازلي، كانت بتحرجه بين الناس". وسألت المؤرخين: هل تعتقدون أن أطفالنا سيجلسون أمام الدراما أم أن جاذبية الدراما البحتة هي التي تجذبهم للمشاهدة؟ وسلم أصدقائي بقدرة الدراما على تشكيل وعي الأجيال رغم طبيعتها المتأثرة برؤية مؤلفها ومخرجها ومنتجها