كيف يكتب الباحث التاريخي عن حقبة الأنبياء السابقين وصحة وقائع دهرهم الموغل في القدم؟ بالطبع ليس أمام الباحث والمؤرخ إلا ما سبق ودُوِّن عن تاريخ الرُّسل والأنبياء الذين أوكل الله لهم مهمة تبليغ الناس، أو الاصطفاء بحد ذاته؛ وبإمكانه أن يستعين بالحفريَّات والاكتشافات، إضافةً للسرديات التي يؤمن بها أتباع الديانات السابقة. نحن هنا نتحدث عن الأنبياء والرُّسل -ما قبل- المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهؤلاء الكرام -عليهم السلام- تتفاوت أزمنة مهماتهم السماوية وتاريخ البعثة المحمدية. فـ(عيسى)، عليه السلام، كان قريباً نسبياً من عهد نزول القرآن إلى الأرض؛ فلا يفصل الحدَثين سوى (610) من السنين، وهذا فاصل قصير قياساً بعمر الإنسانية الكلي والعهود الأولى لذوي العزم من الرُّسل. لكن إن نحن استحضرنا شخصية مثل النبي والرسول (موسى) عليه السلام، فالأمر حينها سيختلف جذرياً، سواءً أكان في الزمان الفاصل بين نبي التوراة وبين الدقيقة التي سمع فيها متأمل غار حراء (صلى الله عليه وسلم) كلمة "اقرَأْ"، أو إطلالتنا على مسار ومغزى الأحداث التي حدثت في زمان (موسى)، عليه السلام. ستُطرح مثلاً أسئلة عن: من هو فرعون موسى عليه السلام؟ وهل فرعون النشأة هو نفسه فرعون الخروج؟ في أي زمان عاش فرعون موسى.. أكان في عصر "رمسيس حور محب" وأبنائه، الذي عاش بين عامي 1290 - 1224 ق.م، أم قبل ذلك.. في عصر فراعنة "الهكسوس" الذين اجتاحوا وحكموا مصر بداية من عام 1730 ق.م؟ الحقيقة أننا ونحن نطلع على تاريخ الرسول والنبي موسى -عليه السلام- أمام تناقضات مذهلة في التدوين التاريخي لحياته وبعثته ومماته؛ يسري هذا الأمر على التدوينين القديم والحاضر؛ ولا نبالغ إن نحن قلنا إن السياسة، كما الأساطير، تلعب دوراً مهماً في سرد حياة كليم الله! خذ مثلاً -عزيزي القارئ- ادعاءات اليهود بحدوث معجزات لا يصدقها العقل تحققت على يدي نبيهم.. ونبينا موسى؛ فهل يُعقل أن يعقوب -عليه السلام- أتى مصر ومعه أبناؤه وقومه والأتباع الآخرون وعددهم حينها -مع المبالغة- لا يزيد عن الثلاث مئة شخص.. هل يُعقل أن يتكاثر اليهود في خلال أربعة عقود -وهي العقود الفاصلة بين ترحيب يوسف عليه السلام بأبيه ومن معه، وعهد خروج موسى بقومه من مصر فاراً من فرعون- إلى أن يبلغ عدد اليهود حين انشطار بحر القلزم إلى شطرين.. نحو ست مئة ألف يهودي؟! كم يتكاثر الثلاثمائة شخص في هذه الفترة ليصبح عددهم مثل الرقم الغريب الذي ذكرناه أعلاه؟ طبعاً لا يصح تصديق هذا عقلاً ومنطقاً. وفي المقابل يطلع المرء في هذه الأيام على كتب كثيرة يكتبها باحثون ومؤرخون عرب، تقول بعض أسطرها المليئة بالأعاجيب: إن موسى -عليه السلام- هو بالفعل الفرعون (إخناتون) الذي يُزعم أنه أول حاكم مُوحِّد في التاريخ يشرع لعقيدته التوحيدية لأن تصبح عقيدة البلاد الرسمية بعد آلاف الأعوام من الشرك! أسطر أخرى في هذه الكتب العربية ترفض جُملةً وتفصيلاً تواجد اليهود في مصر وبالتالي هروبهم مع موسى -عليه السلام- إبان تلك العهود الغابرة، إنهم بهذا لا يشككون بالادعاءات اليهودية فحسب، بل يشككون بالرواية القرآنية كذلك حول قصة موسى برُمتها! المؤرخون العرب الأقدمون لم يقصِّروا من جهتهم كذلك في إضفاء التشويق الغرائبي، على قصة موسى -عليه السلام- ففرعون موسى عربي والدليل أن زوجته اسمها أسيا -أو أسية- بنت عامر، ووزيره هو قارون، ولغة الحديث التي كانت تدور بين موسى وفرعون أثناء مناصحته هي اللغة العربية! طبعاً لا يمكن أن يتطابق هذا مع الوقائع.. إلا في حالة تفسيرية واحدة، وهي أن العرب عادةً ما يعربون أسماء الأعلام لتصبح عربية اللفظ، فاسم (أسيا) هو تحريف للاسم الفرعوني ( أسـ - ية )، وقارون تعديل عربي للاسم القديم الذي يطلقه سكان مصر القدماء على أي شخص يسمى (كا -رون)، ويقال أيضاً إن اسم موسى ما هو إلا تجميع وتعديل للاسم الفرعوني (مو - سس).. وهكذا. .. آخرون يحاجون وهم يشككون بقصة اليهود وخروجهم من مصر، بدليل ألا ذكر في كل ما كتبه الفراعنة الأقدمون في معابدهم ومدافنهم وأهراماتهم لقصة خروج ست مئة ألف شخص من مصر، وطغيان أمواج البحر على جيش الفرعون الذي يلاحقهم. إنهم يقولون إن قصة كهذه وموت ملك مصر القوي حينها، لا يمكن أن تحدث تاريخياً ولا يسجلها معاصروها من الفراعنة الكتَبة بحكم أنها حدثٌ عظيم خارق وهم المعروفون بدقتهم.. حتى في نِسب المواد التي تُحفظ من خلالها مومياتهم! وغاب عن هؤلاء المشككين حقيقة أن التاريخ الفرعوني لم يكتب من خلال مسجلي الوقائع الفرعونية حينها إلا الانتصارات التي حققها الفراعنة، أما هزائمهم فتم منع الجميع من كتابتها، وهي عادة انتقلت إلى العرب.. ولازالت! ما يبقى من حقائق قصة موسى -عليه السلام- منذ ولادته وحتى وفاته المحيِّرة، ليس إلا ما بين أيدينا من خلال سور وآيات القرآن الكريم؛ وفي هذا الشأن لم يهتم القرآن إلا بمغزى ودروس قصة موسى -عليه السلام - أما التفاصيل والتحقق من الأسماء والأحداث فتركها المشرع -جل جلاله- إلى بني البشر الذين تتلبسهم دائماً -حتى طلائعهم- المتناقضات.. والمزاعم!