هاهي كوندوليزا رايس تعود للمنطقة، لدفع المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية حول إعلان مبادىء والتوصل إلى توافق مع الزعماء الإقليميين حول طبيعة المؤتمر المقرر تنظيمه في نوفمبر المقبل. وبهذه الزيارة تكون رايس قد فاقت سلفها القديم هنري كيسنجر في زياراته المكوكية للمنطقة. رايس تولت منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية، وهي ذات المناصب التي تولاها كيسنجر قبلها بأكثر من ثلاثين عاماً. وثمة بالطبع أوجه شبه أخرى. الوزيران خدما إدارات "جمهورية" محافظة، رغم انتماء كل منهما لأقلية تصوت عادة لـ"الديمقراطيين"، أي اليهود بالنسبة لكيسنجر والأفارقة الأميركيين بالنسبة لرايس. الوزيران أيضاً محافظان رغم مرجعيتهما المهنية كأستاذين جامعيين أي من فئة معروفة بالميل الليبرالي. والوزيران تمتعا بقوة غير عادية جعلت كلاً منهما "الذراع اليمنى" لرئيسه. لكن الفارق بين مستويات أدائهما مذهلة فعلاً. فكيسنجر غير جذرياً منطقة الشرق الأوسط، والسياسة الدولية عموماً- خاصة بعد الانسحاب من فيتنام- من دون أن يعلن ثورة أو شعارات جديدة"، بل اكتفى بأن اعتبر السياسة الخارجية "حرفة". أما رايس فأثارت ضجة هائلة حول ثورتها المزعومة في السياسة الخارجية. ولكنها حتى الآن لم تسجل لنفسها نجاحاً واحداً في هذا المجال، بل سببت عدة كوارث لبلادها على المستوى العالمي وبالذات في منطقة الشرق الأوسط. هناك بالطبع كارثة الفشل المزري في العراق, وفشل "الحرب على الإرهاب", والفشل في إدارة الصراع مع إيران... وفوق ذلك تمكنت رايس من إثارة الرأي العام العالمي ضد واشنطن وكادت تخسر الحلفاء الأوروبيين. كيف نفهم هذا الفارق في الأداء؟ ربما ننسبه أساساً إلى الفارق بين الاحتراف والهواية في مباشرة السياسة الخارجية. هنري كيسنجر أدخل في الثقافة السياسية الأميركية مفهوم الاحتراف أو الفن السياسي بذاته. النموذج الذي كان يروج له هو السياسة الأوروبية في القرن التاسع عشر كما تجسدت في شخصية المستشارين بسمارك وميترنيخ اللذين طورا الفن السياسي بانتقالهما السلس من الحرب إلى الدبلوماسية والعكس. جاء كيسنجر من خارج المدرسة السياسية الأميركية، وهو لا يزال يتحدث الإنجليزية بلكنة ألمانية واضحة. أما رايس فتنتمي إلى هذه المدرسة أو هذه الثقافة السياسية المميزة للأميركيين محلياً وخارجياً. لم تطور هذه الثقافة مفهوم الاحتراف السياسي ولا تزال تلفظه بمعنى قوي جداً. فهي في الجوهر مدرسة "شعبوية" معادية للاحتراف المؤسسي. وحتى السياسي المحنك لابد أن يعود إلى اللغة المميزة للسياسة الشعبوية حتى يلامس المشاعر الشعبية وينتصر في الانتخابات العامة لو أنه مضطر لذلك. ولهذا لم تنتج السياسة الأميركية نموذج السياسي المحترف. وأكثر من تولوا وزارة الخارجية الأميركية، والرئاسة الأميركية أيضاً، كانوا ساسة "هواة". عدد كبير من وزراء الخارجية الأميركية اكتفوا بإطلاق الشعارات الكبيرة من دون أن يحققوا أي نجاح في تطبيقها، فدفعوا بلادهم والعالم كله إلى كوارث كان يمكن تجنبها ببساطة. الهواية لها جذور في الميل العاصف لإطلاق الشعارات الكبيرة مثل الشعارات التي أدخلها "المحافظون الجدد" وجعلتها رايس نبراسها في مباشرة السياسة الخارجية. لكن رايس هاوية في المجال السياسي بمعنى أن قدرتها على الحساب السياسي محدودة للغاية. وهذا ما يفسر كونها تبدأ بإطلاق الشعارات فتصطدم بالواقع وتضطر لمراجعة شعاراتها فتخسر هؤلاء الذين يضارون من شعاراتها ثم تخسر مرة أخرى لأنها تغضب من أعجبتهم الشعارات بعد أن تغيرها لتذهب مع الريح. شعار "الفوضى الخلاقة" تعبير مثالي عن الاضطراب المصاحب لممارسة السياسة الخارجية بطريقة الهواية لا الاحتراف. فبمجرد إطلاقه خسرت ثقة حلفاء أميركا في المنطقة العربية... ولما تركت هذا الشعار خسرت مرة أخرى تأييد القطاع اليميني من الرأي العام الأميركي الذي كان الشعار قد "أعجبه" بمسحته المثالية والتبشيرية. من السهل نسبياً تعريف الهواية في مباشرة السياسة. أما المقصود بالاحتراف بالطريقة التي حاول كيسنجر أن ينقل بها لأميركا الخبرة الأوروبية، فليست مجرد التفرغ لمهنة السياسة. فهي تعني أيضاً القدرة على الحساب السياسي الدقيق. فليس المهم أن يتفرغ لاعب الكرة لممارسة اللعبة وأن يكسب منها لقمة عيشه. المهم أن يكون لاعباً ماهراً وأن يحقق الفوز لفريقه. المحترفون يضيفون لناديهم ولسياسات بلادهم سجلاً من الانتصارات الرياضية أو السياسية. وبإمكان بعض الهواة في مجال الرياضة أن يحققوا انتصارات معينة لناديهم أو فريقهم. وبالمقارنة فأكثر الهواة في مجال السياسة الخارجية يدفعون بلادهم إلى كوارث حقيقية. وإحدى أهم المشاكل في فهم السياسة الخارجية لأميركا أن من باشرها وطبقها، هواةٌ من نوع رايس. أكثرهم لم يكن يعرف ما يجري فعلاً في العالم, وأكثرهم لم يقرأ أو يهتم باستيعاب ثقافات وأحوال البلاد الأخرى, والأهم أن أكثرهم لم يكن لديه المهارة أو السيطرة على فنون السياسة وخاصة فن الحساب السياسي. مثلهم مثل الهواة في الشطرنج قد يسببون أشد الحرج والاضطراب للمحترفين عندما يقومون بنقلة غبية أو خاطئة. عندما يتوقع اللاعبون السياسيون الآخرون أن يقوم الأميركيون بـ"النقلة" أو "التحرك" السليم فنياً على لوحة الشطرنج السياسية، ويحدث العكس، يدهشون ويتعجبون من المقصود بها. وقد يدفعهم العجب لمحاولة تفسير هذه النقلة أو هذا التحرك من خلال نماذج عقلية معقدة، بينما التفسير الصحيح هو ببساطة الخيبة أو الغباء. وغالباً لا يحتاج الأمر من اللاعبين الآخرين إلا إلى شيء من ثبات الأعصاب والقيام بتحركات بسيطة تجبر اللاعب السياسي الأميركي على مراجعة تحركاته والاعتراف الضمني بالفشل. وينتمي لهذا النموذج تحرك رايس لإجبار الحلفاء الإقليميين لأميركا على التحول إلى الليبرالية السياسية بإطلاق شعار "الفوضى الخلاقة". فهي اضطرت لمراجعة الشعار في وسط الطريق، فلم "تحصل على بلح اليمن ولا عنب الشام", فكل ما فعله حلفاء أميركا الإقليميون هو إهمال التصريحات والمطالب الأميركية، كأنها لم تكن. أما النموذج الأسوأ فهو أن يستمر الهواة في التحرك بصورة خاطئة، فيدفعون ثمناً كبيراً ويجبرون العالم كله على دفع ثمن كبير قد يصل في مداه إلى الحروب التي "لا لزوم لها". غزو العراق واحتلاله هو من هذا النوع من أخطاء الهواة. والاستمرار في احتلال العراق من دون أي نجاح ومن دون أن تظهر تباشير واضحة للنجاح على الإطلاق، يجسد مرض الهواية في مباشرة السياسة بغض النظر عن شعاراتها ومقاصدها. وربما كان الأسوأ من ذلك كله هو أن يتعامل الهواة مع الأزمات والصراعات العالمية وكأنهم "بناؤون" أو صناع سلام, لكنهم يباشرون المهمة بنفس البساطة الذهنية التي ميزتهم دائماً, فيضاعفون المشكلة بدلاً من حلها. والى هذا النموذج ينتمي تحرك رايس لعقد اجتماع أو مؤتمر دولي لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي حلاً سلمياً. وكما يحدث في حالة نقلات الشطرنج الخائبة, يختلط الأمر عند كثيرين فيذهبون في تفسيرها كل مذهب، بينما هي في الواقع انعكاس للبساطة الذهنية للهواة عندما يضطرون للقيام بألعاب كبيرة.