من السابق لأوانه معرفة التأثير الذي خلفته الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى نيويورك، على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الماضي والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، على شعبيته الداخلية، لكن الشخص الأكثر استفادة من خطابه القاسي وعباراته النارية هو الرئيس الأميركي جورج بوش نفسه. فالرئيس بوش يبني مبرراته للدفاع عن ضرب إيران، وكأنه أمام المحكمة، فهو يشن حملة قوية لإقناع الرأي العام الأميركي بأن استراتيجية زيادة القوات الأميركية في العراق، والتي يدافع عنها الجنرال "ديفيد بيتراوس"، تسير في الاتجاه الصحيح، وبأنه مع قليل من الصبر ستنتصر الولايات المتحدة في حربها ضد "القاعدة" وفي جهودها لإحلال الأمن والاستقرار في العراق. والواقع أن قضية بوش من الصعب تسويقها إلى الجمهور الأميركي بالنظر إلى التوجه الشعبي المناوئ للحرب من جهة، واعتباراً للحقائق القاتمة على الأرض في العراق من جهة أخرى والتي لم يستطع التحسن الطفيف في الوضع الأمني مؤخراً التخفيف من حدتها. فالأرقام والتقديرات تشير إلى أن أربعة ملايين عراقي تحولوا إلى لاجئين منذ عام 2003، مليونان منهم فرَّا إلى خارج البلاد بحثاً عن ملجأ آمن في الدول المجاورة، بينما اضطر مليونا عراقي آخران إلى النزوح من مناطقهم إلى أماكن أكثر أمناً بسبب العنف الطائفي. كما يشهد العراق اضمحلالاً خطيراً لطبقته الوسطى المتعلمة، فضلاً عن العدد الكبير من الضحايا الذين خلفتهم الحرب طيلة السنوات الماضية، سواء من القتلى أو الجرحى. ويُجمع جل المراقبين المتابعين للشأن العراقي على أن الفائز الأول والأخير في الحرب العراقية هو الحكومة الإيرانية. ولهذا السبب بالضبط تبدو الإدارة الأميركية مصممة على تحدي إيران بحجة تدخلها في العراق ودعم الميلشيات الشيعية المسلحة وتزويدها بالتكنولوجيا المتطورة لصناعة القنابل والمتفجرات التي تستخدمها تلك الميليشيات لقتل الجنود الأميركيين. ويصر الرئيس بوش والجنرال "بيتراوس" على أن التدخل الإيراني في العراق هو المسؤول الرئيس عن تدهور الأوضاع وتأخر تحقيق النصر في الحرب. لكن في المقابل يؤكد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن علاقات بلاده مع إيران قد تحسنت في الآونة الأخيرة وصارت جيدة في معظم الأحوال. وبالطبع من غير المتوقع أن يستمع الأميركيون، بمن فيهم وجوه بارزة في "الحزب الديمقراطي"، إلى نوري المالكي وإغفال تحذيرات الرئيس بوش. ويأتي هذا التركيز المتصاعد لإدارة الرئيس بوش على إيران والتحديات التي تطرحها، ليؤجج النقاش في أوساط المتسابقين على نيل الترشح للرئاسة داخل الحزب الديمقراطي، وأهمهم هيلاري كلينتون وجون إدوارد وباراك أوباما، بحيث أصبح مستقبل ترشيح أي منهم مرتبطاً بالرهانات التي تدور حول العراق والسياسات الأميركية الحالية هناك. فلا أحد من أولئك المرشحين مستعد للإعلان بوضوح، وعلى الملأ، بأنه سيسحب القوات الأميركية من العراق مع نهاية عام 2013 إذا ما صعد إلى الرئاسة. بل يبدو أنهم، خلافاً لما يرتجيه مؤيدوهم في الشارع الأميركي، موافقون على منح بوش جميع الصلاحيات لمواصلة مساره الحالي في العراق دون معارضة حقيقية، وذلك لكي يستكمل فترته الرئاسية في عام 2009. فهم لا يريدون أن يظهروا أي فتور في دعم القوات الأميركية المنتشرة في العراق خشية وصمهم بالجبن، أو اتهامهم بالتخلي عن الجنود الأميركيين في ساحة المعركة، وهي التهمة التي لن يغفرها لهم الشعب الأميركي، مما قد يؤثر سلباً على حظوظهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولأن "الديمقراطيين" أيضاً لا يريدون الظهور بمظهر الخائف من إيران، فهم يعتقدون أنه لا خيار أمامهم سوى الانضمام إلى إدارة الرئيس بوش وتبني خطابها اللاذع ضد الجمهورية الإسلامية. لذا فإنه عندما يشن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد هجومه المعهود على الولايات المتحدة في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فهو بذلك يساعد الرئيس بوش على الدفاع عن خطه المتشدد ضد نظام الملالي. وإذا ما تم ربط النشاط الإيراني في العراق بأعمال العنق التي تطال القوات الأميركية، فإن "الديمقراطيين" سيتخذون هم أيضاً موقفاً متشدداً من إيران وسيميلون أكثر إلى وجهة نظر الصقور في الإدارة الأميركية. وسيكون من الصعب على بوش وفريقه إقناع "الديمقراطيين" بالموافقة على ضربة عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية طالما تشير التقديرات الاستخباراتية إلى أن طهران مازالت تفصلها سنوات على القنبلة النووية. ومن أجل ذلك يراهن مؤيدو ضرب إيران داخل الإدارة الأميركية، في إقناع النواب الديمقراطيين بالكونجرس والرأي العام الأميركي، على سلوك إيران في العراق ومساعدتها للميلشيات التي تحارب الجنود الأميركيين، بدل التركيز على الملف النووي، لأن ذلك أيسر في التسويق للرأي العام الأميركي والعالمي. وتبقى المشكلة في أن كلتا الحكومتين العراقية والإيرانية قادرتان على نسف مخططات الإدارة الأميركية وحرف مسار الاستراتيجية التي يسعى الصقور إلى اعتمادها، إذا ما قررتا العمل معاً لإخفاء آثار التدخل الإيراني في العراق. فكما أصبح واضحاً ليس بمقدور المالكي ولا زملائه في الحكومة، تأييد أي تحرك عسكري أميركي ضد إيران، لذا يتعين على الرئيس بوش إبراز الأدلة والبراهين على وجود علاقة بين إيران والإرهاب. والأكثر من ذلك أنه في حالة إيجاده للأدلة الدامغة والبراهين المقنعة لن يتردد "الديمقراطيون" من جهتهم في دعم التدخل العسكري، والفضل في ذلك يرجع في جزء منه إلى خطاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أمام الجمعية العمومية في الأسبوع الماضي وما تخلله من هجوم كلامي عنيف على الولايات المتحدة.