في مؤتمر أكاديمي عُقد مؤخراً في جامعة "نايميخن" الهولندية حول "صعود السلفية في العالم" قُدمت أوراق كثيرة, ستنشر لاحقاً في كتاب, غالبيتها من قبل باحثين أوروبيين شبان في العشرينات من أعمارهم. ينتمي هؤلاء الباحثون إلى جيل جديد من "المستعرِبين" الذين يتقنون اللغة العربية, وتستند أبحاثهم إلى مصادر أولية ونتائج زيارات قاموا بها للمنطقة حيث أقاموا لفترات متفاوتة في هذا البلد أو ذاك. في هذا المؤتمر ربما لم تبق قضية لها علاقة بالسلفية إلا ونوقشت بعمق ومعرفة مثيرين. هؤلاء الباحثون، من فرنسا والنرويج وهولندا وبريطانيا وغيرها، يعرفون كل "أبوات التيار السلفي" عن قرب, وكل ما يفكر به: أبو مصعب الزرقاوي, أبو بصير الطرطوسي, أبو فلان البغدادي, وأبو علان السوري, وهكذا. كما يعرفون تاريخ السلفية من عهد ابن تيمية إلى محمد بن عبدالوهاب وصولاً إلى ربيع المدخلي. بل ومن الممكن القول إن قلة من الباحثين العرب هم على اطلاع معمق بتفاصيل الصورة السلفية كما عرضها أولئك الباحثون. في كل مؤتمر عن أية موضوعات عربية يمكن الانتباه لنفس الظاهرة: كثافة في صعود جيل شاب جديد من الباحثين الأوروبيين والغربيين في القضايا العربية. في زمن الحدود الثقافية والعلمية المفتوحة ليس هناك ما يمنع أحداً من دراسة أي شيء في أي مكان. كما أن ذات الزمن يوفر فرصاً هائلة لتعميق المعرفة بالذات والآخر, ولا يمكن توجيه اللوم لمن يستفيد من تلك الفرص بأقصى ما يمكن, لكن اللوم يوجه لم يضيعها ولا يستثمرها. وهنا بالضبط لبُّ الفكرة في هذه السطور: لماذا لا نجد جيلاً من الشبان العرب البحاثة يدرسون قضايا العالم ويستفيدون منها ويفيدون مجتمعاتهم بالخبرة التي هم في مقدمة من يمكنه التبحُّر فيها واستكشافها؟ إنه نفس السؤال الذي يطرحه الراحل إدوارد سعيد مطالباً بإنشاء مراكز للدراسات الغربية في الجامعات العربية, كجزء من الحل. وهو السؤال الذي كان حسن حنفي قد اقترح إزاءه تأسيس علم "الاستغراب" كجزء من الحل أيضاً. والمفارقة أن غالبية طلبة الدراسات الإنسانية العليا العرب في الغرب يذهبون إلى هناك ليدرسوا بلادهم وقضايا مجتمعهم, التي كان بإمكانهم دراستها وهم في بلدانهم, ومن دون كل الأعباء المادية والسفر والأكلاف الأخرى. وهناك بالفعل إشكالية حادة إزاء هذه المسألة يقابلها اهتمام قليل بمناقشتها والتأمل فيها. عشرات الآلاف منهم في أوروبا والولايات المتحدة تلتحق بجامعات كبيرة وعريقة وتتمتع بخبرات واسعة وموارد وأرشيفات ثمينة توفر للدارسين فيها فرصة ذهبية للاطلاع على ما لا يمكن الاطلاع عليه في بلدانهم. لكن الاستفادة من تلك الموارد والمناخ العام يكون في المجمل ضئيلاً لأن غالبية أولئك الطلبة يفضلون دراسة موضوعات تتعلق ببلدانهم ومجتمعاتهم الأصلية. وليست في ذلك مشكلة كبيرة لو كانت هناك نسبة معقولة ممن يدرسون موضوعات أوروبية وأميركية وعالمية أخرى, آسيوية وأفريقية, تعمق من المعرفة العربية بالتجارب والأفكار والسياسة والاقتصاد والتحولات التي شهدتها تلك المناطق وتواريخها. علينا أن نقر بأن معرفتنا العلمية والأكاديمية والبحثية بـ"الآخر" ما تزال غير عميقة على أقل تقدير, إن لم نقل هشة, وبالكاد تتجاوز التغطيات الإعلامية السريعة وما تخلقها من صور وانطباعات بخطوة أو خطوتين. المعرفة والخبرة العلمية هي التي توفر البنية التحتية لأي تصور أو فكر جديد, كما توفر أيضاً الأساس لأي توجه سياسي أو اقتصادي معين. لكن هذه البنية التحتية الرصينة والممتدة والعميقة غائبة بشكل كبير. والمرشحون الأوائل والأهم لإقامتها هم طلبة الدراسات العليا والباحثون في مجالات الدراسات الإنسانية. وعلينا أن نشير كذلك إلى أن طلبة الدراسات العليا العرب يستسهلون دراسة موضوعات خاصة ببلدانهم ومجتمعاتهم لعدة أسباب بعضها عملي وبعضها ثقافي. بعضهم تجذبه الأرشيفات الغربية التي قد يجد فيها عن قضايا مجتمعه وتاريخه وسياسته ما لا يجده في بلاده. وبعضهم الآخر يستسهل البقاء في فضاء اللغة العربية والاعتماد على أدبيات لا يستطيع الوصول إليها أو التعامل معها طلبة غربيون بنفس السهولة. وهناك نسبة منهم, وهي الأقل مع الأسف, تنشر الدراسات والأبحاث التي تقدمها كأطروحات لشهادات الماجستير أو الدكتوراه باللغات الأجنبية, وهذا إنجاز مهم ويستحق التقدير, خاصة إن كان منهج البحث والنتائج والمعرفة المقدمة تقدم ما هو جديد، أو تطرح رؤية مختلفة عما هو سائد في الأدبيات الغربية. والأمر الآخر الإيجابي الذي تتوجب الإشارة إليه في دراسة "الذات" في الغرب هي امتلاك العقلية النقدية ومناهج البحث العلمي التي هي خلاصة تجارب طويلة الآن خاصة في الأكاديميات الغربية. لكن تلك الإيجابيات المحدودة لا تتناسب مع الجهد والوقت والمال المبذول والفرص المواتية لتعظيم إيجابيات وفوائد أكثر بكثير. أليس من الغريب أن يعود آلاف الطلبة مثلاً من الولايات المتحدة وليس منهم إلا أعداد قليلة جداً قد درست موضوعات خاصة بأميركا: هل هناك أطروحات دكتوراه عربية في الولايات المتحدة درست التاريخ الأميركي, الحرب الأهلية هناك, كيف بدأت وكيف انتهت, النظام الفيدرالي بين الولايات, طبيعة التوافقات الثقافية والدينية والاجتماعية المكونة للشعب الأميركي, علاقة المهاجرين من غير أصول أنجلو- سكسونية, العنصرية, الاقتصاد والسياسات النقدية, العلاقات بين المال والاقتصاد والإعلام والصناعة العسكرية, الأدب الأميركي..., الخ؟ هل هناك متخصصون عرب في الحزب "الجمهوري" أو الحزب "الديمقراطي" يقابلون المتخصصين الأميركيين في معظم إن لم يكن الأحزاب السياسية والدينية العربية؟ أوليس من الغريب أن يعود الطلبة الأميركيون الذين يدرسون في البلدان العربية وقد درسوا نظائر تلك الموضوعات في البلدان العربية التي درسوا فيها؟ هل هناك طلبة عرب درسوا ما يحدث في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وأوروبا بشكل عام, وعادوا إلى بلدانهم بخبرات جديدة حول كيفية الاستفادة من تلك التجارب؟ في أي المنحنيات سارت كل تجربة من تلك التجارب, وكيف اتسقت علاقات الأطراف المتنافسة والمتصارعة, وما علاقة الداخل بالخارج, وعلاقة الفكر بالسياسة, وعلاقة الاقتصاد بذلك كله؟ كيف تطورت فكرة الاتحاد الأوروبي مثلاً, وأين هي الآن, وما هو مستقبلها؟ هل هناك باحث عربي قدم مؤخراً أطروحة, على سبيل المثال, حول توسع الاتحاد الأوروبي وانضمام دول جديدة إليه خلال العشر سنوات الأخيرة, وما هي انعكاسات ذلك؟ أو حول توسعة حلف "الناتو"؟ أو حول السياسات النقدية الأوروبية وعلاقة "اليورو" بالدولار ومستقبل تلك العلاقة وما تعنيه بالنسبة للعالم؟ بل، هل هناك بحوث لها علاقة مباشرة بالعرب وعلاقتهم بالغرب مثل وضع فكرة التعددية الثقافية في الغرب من ناحية فلسفية وفكرية، وإلى أين تسير، وما أثر الجدل حولها على الجاليات العربية؟ أو وضع الدين في المجتمع وكيفية التعامل معه؟ وكذا الجدل الدائر في العديد من الدول الأوروبية على مستوى التشريعات بشأن التعامل مع المهاجرين والإثنيات والتجنيس؟ وغير ذلك من موضوعات يضيق المجال عن تعدادها.