مصر وغزة: علاقة تزداد خصوصية!
علاقة خاصة جداً تربط مصر بقطاع غزة. علاقة من النوع الذي لا يمكن الفكاك من آثاره المباشرة أو تجنب تداعياته اليومية، فهي علاقة جغرافيا وحدود. وعلاقات الجغرافيا تصنع التواريخ وتحدد المصائر. هكذا تقول الجغرافيا السياسية التي يصعب تجاهلها في عصر يرى عدد متزايد من خبراء العلاقات الدولية أن الجغرافيا الاقتصادية هي الأكثر تأثيراً فيه. وإذا كانت قواعد الجغرافيا السياسية تعمل حتى اليوم، فلا بد أن يكون أثرها أقوى وأعمق حين تكون للجغرافيا الطبيعية ملامح خاصة جداً، كما هو الحال في قطاع غزة. فالمساحة القزمية للقطاع جعلته يضيق بسكانه ويمثل أعلى معدل للكثافة السكانية في العالم. فهو عبارة عن شريط ضيق من الأراضي يقع بمحاذاة البحر المتوسط بين مصر وإسرائيل. وتقدر مساحته الكلية بحوالي 365 كم2، إذ لا يزيد طوله على 40 كم بينما يبلغ عرضه في أقصى اتساع له نحو 10 كيلو مترات.
وحين يعيش أكثر من 1.4 مليون فلسطيني في هذه المساحة، تصبح الكثافة فيه رهيبة. وقد حدث ذلك لأن القطاع استوعب عدداً لا بأس به من لاجئي حرب 1948 الذين يعيشون في مخيماته حتى اليوم، وعددها ثمانية مخيمات يعيش فيها ما يقرب من نصف مليون. وأكبر هذه المخيمات، وهو جباليا، يضم نحو مائة وثلاثة آلاف. أما أصغرها، وهو دير البلح فيحوي نحو 20 ألفاً.
ومما له دلالة واضحة على حالة التكدس السكاني في القطاع، أن عدد سكانه عام 1948 كان حوالي 80 ألفاً فقط، قبل أن يتدفق عليه اللاجئون الذين وصل عددهم الى مائتي ألف. أي أن عدد سكانه ازداد أكثر من خمس مرات خلال نحو ستين عاماً، رغم بؤس الحياة فيه، وربما بسبب هذا البؤس. فقطاع غزة لا ينتج إلا البشر وبمعدلات مرتفعة تجعله موطناً لأكبر نسبة نمو ديمغرافي طبيعي في العالم.
هذه الجغرافيا الطبيعية –البشرية هي المحدد الرئيسي للعلاقة الخاصة بين مصر والقطاع، لأنها تمثل تهديداً كامناً للأمن القومي المصري. فالحصار الإسرائيلي الخانق للقطاع، يجعل حدوده مع مصر هي المتنفس الوحيد لأهله الفقراء المكدسين فوق بعضهم بعضا. ولذلك فأي اضطراب في القطاع قد يحمل في طياته خطراً على أمن مصر القومي، لأنه قد يؤدي إلى تدفق الفارين منه عبر الحدود.
ويزداد هذا الخطر في ظل المحدد الثاني للعلاقة الخاصة، وهو التزام مصر تجاه القطاع. ويتجاوز هذا الالتزام دور مصر العام تجاه قضية فلسطين بسبب تأثير الجغرافيا الطبيعية –البشرية. ولذلك كان منطقياً أن يوضع قطاع غزة تحت إدارة مصر ضمن ترتيبات ما بعد حرب 1948. وبقي هذا الوضع الذي عمق العلاقة الخاصة بين مصر والقطاع، حتى حرب 1967 حين استولت إسرائيل على القطاع عندما أكملت بسط سيطرتها على باقي فلسطين. وبدأت، منذ ذلك الوقت، مرحلة جديدة في العلاقة بين مصر وقطاع غزة بدت أقل خصوصية عما كانت عليه، لأن الاحتلال الإسرائيلي أحدث تغييراً في الجغرافيا، حيث خلق حاجزاً جغرافياً بين مصر والقطاع استمر نحو 15 عاماً. غير أن التغير الذي حدث كان في مظاهر التعبير عن الخصوصية في العلاقة بين مصر وقطاع غزة، وليس في هذه الخصوصية نفسها من حيث مقوماتها والأسس التي تقوم عليها.
وقد حدث تراجع ملموس بالفعل في اهتمام مصر بأوضاع القطاع، ليس فقط لأن الاحتلال خلق وضعاً جديداً، ولكن أيضاً لأن الهزيمة غيرت مصر سياسة ومجتمعاً. كان تركيز مصر الرسمية والشعبية في سنوات ما بعد حرب 1967 على تحرير أرضها التي احتلتها إسرائيل. كما أن تراجع الموجة القومية العربية التي انطلقت من مصر، أحدث تغييراً في سياستها الإقليمية، بما في ذلك نظرتها إلى قضية فلسطين وموقعها إزاءها.
غير أنه ما كان لهذا كله أن يغير تأثير الجغرافيا السياسية. فعاد هذا التأثير بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء، ولكن بشكل تدريجي. لم ترجع الجغرافيا الطبيعية إلى ما كانت عليه صبيحة 4 يونيو 1967، لأن قطاع غزة ظل تحت الاحتلال. ولكن تأثيرها عاد تدريجياً في شكل جديد اختلفت فيه السياسة أكثر مما تباينت الجغرافيا.
وكان أهم ما اختلف في السياسة، وأعطى لتأثير الجغرافيا السياسية شكلاً جديداً، هو تنامي الحركة الإسلامية في قطاع غزة، وخصوصاً التنظيم الفلسطيني لـ"الإخوان المسلمين". فهذا التنظيم هو أكثر تنظيمات "الإخوان المسلمين" ارتباطاً بالجماعة الأم في القاهرة. فهي التي أنشأته في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت البداية زيارة إلى فلسطين قام بها وفد من الجماعة برئاسة عبد الحكيم عابدين صهر مؤسسها ومرشدها العام الأول الإمام حسن البنا...
وكانت جماعة "الإخوان" هي التي دعمت التنظيم الفلسطيني حين أصبح محصوراً في قطاع غزة بعد حرب 1948 عندما اندمج "إخوان" الضفة الغربية في التنظيم الأردني. كما أن "إخوان" غزة كانوا هم الأكثر تضررا من الصدام الذي تصاعد بين الجماعة الأم ونظام الرئيس جمال عبد الناصر منذ عام 1954. فكان القطاع حينئذ تحت إدارة مصر، ولذلك كان جهاز الأمن فيه جزءاً من السلطة الأمنية المصرية.
وتعرض "إخوان" غزة لملاحقات ومطاردات عنيفة، غير أن هذه المحنة لم تستأصل جذورهم التي كانت قوية، فتمكنوا من الصمود والتماسك ثم استئناف التحرك. كما أن كوادرهم التي فرت من الملاحقات في غزة، أو كانت في الخارج للدراسة أو العمل، لعبت دوراً مهماً في جمع شمل "الإخوان" الفلسطينيين في دول عربية عدة بعد أن ساهم بعضهم -ممن كانوا في الكويت خصوصاً– في تأسيس حركة "فتح" اعتباراً من أواخر الخمسينيات.
لكن الاحتلال الإسرائيلي للقطاع أحدث قطيعة بين الجماعة الأم و"إخوان" غزة الذين اختاروا التهدئة والتركيز على الدعوة الدينية والعمل الاجتماعي، مثلهم مثل "إخوان" الضفة الذين انفصلوا فعلياً عن التنظيم الأردني. ونجح "إخوان" غزة من خلال تجنب خوض مواجهة ضد الاحتلال، في بناء ركائز اجتماعية قوية لهم، بينما كانت ضربات الاحتلال مركزة على حركة "فتح" والتنظيمات القومية واليسارية المختلفة.
ولذلك جاءت استعادة مصر لحدودها مع قطاع غزة، في ظل معاهدة السلام مع إسرائيل، بينما بدأ "الإخوان" في القطاع يتداولون بشأن الانتقال من العمل الدعوي والاجتماعي إلى العمل السياسي المقاوم للمرة الأولى. وكانت هذه بداية مرحلة جديدة كلياً في العلاقة بين مصر وقطاع غزة. ولم يكن متخيلاً، حينذاك، أن الأوضاع ستتغير في القطاع، وفي الوضع الفلسطيني عموماً، إلى حد يصبح فيه خاضعاً لسيطرة "الإخوان" الفلسطينيين، ويخلقوا لمصر معضلة لم تكن على جدول أعمالها. فما كاد النصف الثاني في عقد الثمانينيات يبدأ حتى كان "إخوان" غزة، وكذلك الضفة، قد باتوا مستعدين للقيام بدور أكبر، وهو ما اقترن حدوثه فعلياً بنشوب الانتفاضة الكبرى في أواخر عام 1987.
ولذلك كان إقدام "إخوان" غزة والضفة على تأسيس حركة "حماس" تعبيراً عن تحول تاريخي ليس فقط بالنسبة لهم، ولكن أيضاً في تاريخ العلاقة بين مصر والقطاع. فقد أصبحت هذه العلاقة الخاصة أكثر خصوصية. وأخذت أعباؤها على مصر تزداد حتى بلغت ذروتها الآن في ظل هيمنة "حماس الإخوانية" على غزة في لحظة تصاعد الصدام بين سلطة الدولة في القاهرة وجماعة "الإخوان" الأم.