قتل المجندون التابعون لشركة "بلاك ووتر" الأمنية الأميركية ثمانية مدنيين وجرحوا ثلاثة عشر آخرين يوم الأحد الماضي في حي المنصور بغربي بغداد. وفي أعقاب ذلك أصدر وزير الداخلية العراقي أمراً بإلغاء الرخصة التي تسمح لهذه الشركة بالقيام بأعمال حراسة، وأعمال عسكرية أخرى في العراق. والحقيقة أن شركة "بلاك ووتر" وغيرها من الشركات الأمنية في العراق تمثل نسيجاً عجيباً من القوة العسكرية غير المنظمة، والتي لا تخضع لأي قانون دولي أو عراقي، أو حتى القانون أو الدستور الأميركي. وتمثل هذه الظاهرة الخاصة بخصخصة الحرب والأمن، ظاهرة جديدة لم تكن معروفة من قبل بهذا الشكل. فهناك حوالي 120 إلى 130 ألفاً من الجنود المرتزقة في العراق الذي يعملون في هذه الشركات، يأتي معظمهم من خلفية عسكرية، وينتمون إلى جنسيات متعددة. وهناك أكثر من مئة شركة أمنية تعمل في العراق، بعضها يعمل لصالح القوات الأميركية وبعض آخر يقدم الحماية والأمن للدبلوماسيين الأميركيين، وثالث يقدم الأمن للوزراء العراقيين أنفسهم. ومعظمها يقوم بأعمال الأمن لصالح الشركات المتعاقدة مع الحكومة الأميركية، والتي تقدم خدمات لوجستيه مختلفة في ذلك البلد. وبعض العاملين في هذه الشركات الأمنية لديهم خبرات متقدمة في المجالات الأمنية والعسكرية المختلفة، ويعمل بعضهم في مجال الطيران والتدريب العسكري وغيرهما، ويتلقون تدريبات شاقة وعالية في قواعد ومنشآت عسكرية تابعة لهذه الشركات قبل انخراطهم في الخدمة، سواء في العراق أو في أفغانستان، أو في البوسنة وكوسوفو، أو غيرها من المناطق الساخنة حول العالم. ومعظم هذه الشركات إما شركات أميركية أو بريطانية أو إسرائيلية، وهناك شركات تنتمي إلى جنوب إفريقيا، لعل من أهمها شركة "اكسكوكتف آوتكمز". وفي الفضائح التي أعقبت انكشاف عمليات التعذيب في سجن "أبو غريب" في العراق، تبين أن معظم الأعمال الشائنة قام بها جنود أميركان في ذلك المعتقل، كما قام بها بعض المرتزقة التابعين لبعض هذه الشركات. ولعل أكبر شركة تعمل في هذا المجال هي "بلاك ووتر" وهي شركة أميركية (متعددة الجنسيات) بدأت نشاطها التجاري في عام 1997، وتهتم بتدريب العاملين لديها من الحراس والعسكريين السابقين في ميادين رماية وقواعد في شمال كارولينا، وولاية إلينوي، كما أنها تنوي فتح ميدان تدريب ورماية في مدينة سان دييجو بولاية كاليفورنيا. ويتدرب في ميادين الشركة قرابة أربعين ألف شخص سنوياً. وتعتبر هذه الشركة واحدة من 180 شركة أمن عاملة في العراق، وتمتلك أسطولاً جوياً من طائرات الهيلوكبتر، بعضها للنقل، والبعض الآخر للقتال. وقد صنعت مؤخراً حاملات للجنود وأدخلتها في الخدمة لصالح الجيش الأميركي. وتتفرع عن هذه الشركة الضخمة عدة شركات بعضها متخصص في الملاحة الجوية، وبعض آخر في الملاحة البحرية، بالإضافة إلى الأعمال الأمنية وشبه العسكرية التي تقوم بها. وغالباً ما ينضم إلى العمل فيها عدد من العسكريين السابقين الذين عملوا في الجيش الأميركي، ومعظمهم من الغواصين في البحرية الأميركية. وتدفع هذه الشركة وغيرها من الشركات الأمنية أجوراً عالية للحراس العاملين فيها، تصل إلى 600 دولار في اليوم الواحد. وقد حصلت هذه الشركة خلال العام الماضي على عقود حكومية تقدر بحوالي 500 مليون دولار، معظمها مقابل تقديم خدمات أمنية في العراق، ولكن بعضاً منها لخدمات قدمتها الشركة إبان إعصار "كاترينا" الذي ضرب ولاية "لويزيانا" وغيرها من الولايات في الساحل الجنوبي للولايات المتحدة في العام الماضي. وبالإضافة إلى جنودها الأميركان، فإن هناك عدداً من الجنود المرتزقة الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة أوروبية وآسيوية، وآخرون من جنسيات دول أميركا الجنوبية. وتدفع هذه الشركات أجوراً أكبر لجنودها الأميركيين والأوروبيين، مما حدا ببعض الصحف في أميركا الجنوبية إلى أن تنتقد الازدواج المبني على الجنسية في دخل العاملين في تلك الشركات. ولهذه الشركة بالذات تاريخ غير مضيء في العراق، فقد تعرض أربعة من جنودها لمواجهة مع المقاومة في الفلوجة في 31 مارس 2004، وقتل هؤلاء الجنود، وعلّقت جثثهم. وقد أثار هذا الفعل حنق القوات الأميركية التي هاجمت مدينة الفلوجة ودمرت أحياءً كاملة منها، وحاصرتها ومنعت عنها الغذاء لأشهر عدّة، كما قتلت العديد من أبناء المدينة والمدنيين فيها. وتلطخت أيدي هذه الشركة وغيرها من الشركات الأمنية في العراق بتعذيب وقتل العديد من العراقيين في السجون الأميركية وأماكن الاعتقال، ولعل أكبرها معتقل "أبو غريب" سيئ الذكر. ونتيجة لتلك الجرائم بحق المدنيين سلطت محطات التلفزة الأميركية الأضواء على هذه الشركات، كما انتقدت من قبل بعض رجال الكونجرس، الذين طالبوا بإخضاعها للقوانين الأميركية، وللمساءلة أمام القضاء. حيث لا تخضع هذه الشركات للقانون الدولي للحرب، ولا يمكن محاكمة جنودها على اقتراف أي جرائم حرب قاموا بها ضد المدنيين. وحسب الأرقام التي أوردها الصحافي "كريس هدجز" في مقالة له في صحيفة "فيلادلفيا ديلي نيوز" في الثالث من يونيو الماضي، فإن هناك ما بين 20- 30 ألف جندي وحارس أمن يعملون لصالح هذه الشركة في العراق. وحينما يضاف تعداد هؤلاء الجنود إلى مجموع الموظفين العاملين من مختلف الجنسيات في الشركات الأمنية، والشركات العاملة في المجالات اللوجستية، فإن تعدادهم يصل إلى 126 ألفاً، وهذا الرقم يقارب 80% من تعداد جنود الجيش الأميركي النظامي في العراق. وقد صرفت الحكومة الأميركية في العام الماضي 4 مليارات من الدولارات على أنشطة هذه الشركات الأمنية، ومعظم العقود المبرمة معها لا تخضع لشروط المنافسة المطلوبة من وزارة الخزانة، أو من وزارة الدفاع. والقانون الوحيد الذي تخضع له هذه الشركات، هو أمر إداري أصدره "بريمر" عام 2004، يعفي هذه الشركات الأمنية من أي مساءلة قانونية نتيجة لأفعال وأعمال عسكرية يقوم بها منسوبوها. لذلك فإن الكثيرين يشككون في قدرة الحكومة المركزية في بغداد على ملاحقة الجرائم التي يقوم بها الموظفون العاملون في هذه الشركات ضد المدنيين العراقيين. أما الشركة الأخرى العاملة في العراق فهي شركة "دين كورب" وتبلغ عائداتها السنوية حوالي ملياريْ دولار. وهي ترسل مقاتليها إلى العراق وأفغانستان، وكذلك إلى أماكن أخرى من العالم. وبالإضافة إلى عملها في مجال الأمن، فإنها قد وقعت عدداً من عقود صيانة الطائرات في بعض دول العالم. وبالنسبة للشركة الأخيرة، وُجهت لبعض منسوبيها تهم بالقيام بأعمال غير أخلاقية في حرب البوسنة، مما حدا بهذه الشركة إلى فصل عدد من الموظفين العاملين في تلك المنطقة. ومع أن هذه الشركة تقوم بحماية بعض الدبلوماسيين والشركات الأميركية، تقدم الحماية أيضاً لبعض الشخصيات البارزة في الحكومة العراقية، خاصة في تحركاتهم خارج المنطقة الخضراء. أما الشركة الثالثة الكبرى التي تعمل في العراق، فهي شركة "تربل كومباني" وقد وقّعت عقداً مع وزارة الخارجية الأميركية، ولها أيضاً قواعد وميادين تدريب في جمهورية الهوندوراس في أميركا الوسطى. وتدفع الشركة لموظفيها مرتبات مجزية تتراوح ما بين 400- 700 دولار يومياً. وهناك شركات بريطانية وإسرائيلية أمنية تعمل في العراق، وبعض منها واجهة لوكالات استخبارات في المنطقة، وينضم إلى العمل فيها عدد من العسكريين المتقاعدين عن العمل في تلك الجيوش. ولم تحظَ هذه الشركات بدراسات أكاديمية معمقة، وهناك كتاب أو كتابان بالإنجليزية عن شركة "بلاك ووتر". كما نشر الدكتور حسن الحاج أحمد مؤخراً دراسة جيّدة عن الشركات الأمنية، إلا أنها للأسف لم تتطرق للشركات الأمنية العاملة في العراق. لذلك فإن هناك حاجة ماسّة للأكاديميين العرب لتشجيع الباحثين الشباب لدراسة هذه الظاهرة بشكل معمق عبر رسائل للماجستير والدكتوراه.