أرسل لي طبيب من الدمام يقول: "بوركت، فقد أصبحت معك عالمي النظرة، إنساني المعرفة، وأصبحت الحلول تخرج من رحم الفكر والعقل، بدلاً من التعصب والحزبية والانتماء، وأقرأ كل ما تجري به يمينك بشغف كبير، وغالباً ما يتحول المكتوب إلى حلقات نقاشية لتعم المعرفة، وليخرج ما يمكن من الأصدقاء من النفق المظلم". وجوابي عليه: الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله... وهناك قصة كاملة بعنوان "الأرض الطيبة" ويجب أن أشرح هذه الفكرة... إذا رمينا عود ثقاب في وعاء ماء انطفأ، أو عرضنا الشمع للنار ذاب، أو وضعنا الحليب فوق النار فار، أما إذا رمينا شعلة من نار فوق بنزين أو حزمة بارود وديناميت التهب وانفجر. وما يجعل المصير لعود الثقاب مختلفاً هو الوسط المستقبل. والرجل الطيب أرض طيبة رحبت بالفكرة التي لاقت وسطها، ولكن نفس عود الثقاب إذا رمي في بركة ماء انكفأ وانطفأ. وفي القرآن إن البلد الطيب "يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا". وفي العراق أشربت قلوب الناس العجل الصدامي، فتحول إلى ثقافة، فمع أن صدام وعبد الناصر أصبحا في ذمة الله، ولكن عبادهما عليهما يندبون ويبكون؟ كما يخاف "الإيزيديون" من الشيطان في جبل سنجار في العراق، ويتعرض للأذى من قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! وكانت مشكلة في مجلس الحكم العراقي بعد دخول صدام ملفات البلى. ويقولون إنه ليس الله، ولكنه مستخلف من الله في حكم الأرض عشرة آلاف سنة! ويسمونه طاووسا، ولا يلبسون الأزرق، ولا يأكلون الملفوف والبامية، ويتطيرون من كل كلمة فيها حروف الشين والطاء مثل طشت ومشط ومخاط وخاط..! وفي الصين يظن الكثيرون أن "ماو تسي تونج" مشى عشرة آلاف كيلومتر في المسيرة الكبرى، حتى كتبت "يونج تشانج" كتاباً كاملاً أحمر عن الرجل، بعد كتابها المشهور "البجعات البرية" عن مأساة ثلاثة أجيال، لتظهر خطر الديماغوجية في اغتيال العقول. وأحد القادة الراحلين لإحدى الجمهوريات الثورية العربية، نشأ في ظروف فقر وجهل، فانتقم بالوعي بعد أن حركه اللاوعي، وقفز بحصان العسكر إلى مقعد السلطة بالسيف والصولجان، حتى مات على عربة حربية، بين من يلعنه، ومن يبكي عليه، ويشق الثياب وينتف الشعر والحواجب لذكراه. وحسب أرسطو فإن الحياة "تراجيديا" لمن يغرق في العواطف، وهي "كوميديا" لمن يفكر بعقل بارد من القطب الشمالي. والصالحون يبنون قصوراً في الآخرة، ويعرفون أنها دار القرار، والأشرار كثيرون، ويظنون الأخيار أشراراً، ولذا يبحثون عنهم في الآخرة فيقولون: مالنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار، أتخذناهم سخريا، أم زاغت عنهم الأبصار؟! وفي الإنجيل أن عيسى بن مريم حدّث الحواريين عن رجل خرج ليزرع وفي يده البذور فقال: هاهو ذا الزارع قد خرج ليزرع، فسقط بعض في الطريق، فلما طلعت الشمس احترق، وآخر وقع من يده فجاءت الطير فخطفته، ووقع الثالث في الشوك فاختنق، ووقع بعض في أرض طيبة فأخرج ستين ومائة؟ قالوا يا معلم لا نفهم كثيرا مما تقول. وكان يحدثهم بأمثال، وكان يتكلم كمن له سلطان، وليس مثل الكتبة والفريسيين. وهذان الصنفان هما من واجه عيسى بن مريم: المتشددون الحرفيون في الكلمة (الأصوليون)، والفريسيون وهم الأقرب لرجال السلطة والمخابرات من جند الرومان، وكان هناك الصدوقيون الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم أقرب للعلمانيين في أيامنا. فقال لهم وهم يتعجبون: كم مرة أضرب لكم الأمثال فلا تفهمون: أما من احترق فهو من أسرع في اعتناق الكلمة، فلما تعرض للفتنة ارتد وهرب، وأما من خطفه الطير، فهو الشيطان يخطف القلوب بالوهم، وأما من اختنق بالشوك فهي شهوات العالم وغروره تخنق الكلمة، وأما من نبت ستين ومائة فهي الكلمة الطيبة تقع في الأرض الطيبة.. وعندما أسمع كلمات من النوع الذي أرسله طبيب الدمام، أعرف أن كلماتي ليست باطلاً أو من قبيل قبض الريح.. وأن بذوري وقعت في الأرض الطيبة فيدخل كثيرون في أكاديمية العلم والسلم أفواجاً.