ما أسهل أن نتحدث عن دارفور... ولكن ما الذي يمكن أن نقوله بكل ثقة عن حقيقة ما يجري هناك؟ حسب ما تواضع عليه الاعتقاد التقليدي السائد، فإن الذي يشهده الإقليم هو حرب يخوض فيها أبناء دولة واحدة مواجهات ضد بعضهم البعض، أي متمردون يقاتلون الحكومة، وحكومة تقاتل المتمردين. غير أن الحقيقة هي أشد تعقيداً من هذا بكثير. ثم إنه ليس نزاعاً قاصراً على إقليم دارفور وحده، لكونه تجاوز الحدود إلى الدول المجاورة، مسبباً بذلك زعزعة أمنية إقليمية أوسع نطاقاً. وفي دارفور كارثة بيئية أيضاً، مما يعني وجود مكونات وعناصر بيئية للنزاع جراء التصحر وتدهور النظام البيئي وشح الموارد، وخاصة شح المياه. وقد عُدت لتوي من زيارة للإقليم والمنطقة المجاورة له، استغرقت سبعة أيام. وقد كان القصد من الزيارة تلك أن أستمع إلى رأي أهل السودان، مسؤوليه ومواطنيه القرويين الذين أرغمتهم نيران النزاع على النزوح من ديارهم وقراهم. كما استمعت إلى رأي عمال الغوث الإنساني وإلى عدد من قادة الدول المجاورة. وقد ساعدني كل ذلك على العودة وأنا أحمل في ذهني صورة واضحة جداً عما يجري هناك. ومن بين ما توصلت إليه، أنه ليس ثمة حل واحد فحسب لهذه الأزمة الشائكة المتشعبة الأسباب والمصادر. ذلك أن إقليم دارفور إنما هو حالة دراسة معقدة بحق. وإذا ما أردنا للسلام أن يتحقق فيه، فإن علينا الأخذ بجملة العناصر والدوافع التي نشأ بسببها النزاع أصلاً. ومن كل الذي رأيته وسمعته، فإن ذلك ممكن، ولابد لنا من النجاح في هذه المهمة. وفي خارج مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، كنت قد زرت معسكر "السلام" لنازحي الحرب، حيث يقيم نحو من 45 ألفاً منهم. فإلى هؤلاء فتحت قلبي وأحسست بمعاناتهم ويأسهم وإحباطهم. ولما كان هناك أطفال لم يروا شيئاً في الحياة خارج حدود المعسكر الذي يقيمون فيه -أو ولدوا فيه- فقد قصدت أن أعطيهم شارة فأل وبشرى. ووعدت ساكني ذلك المعسكر بأننا سوف نبذل قصارى جهدنا كي يحل السلام ويعود الناس إلى قراهم وديارهم التي شردوا منها. وحتى هذه اللحظة، يمكننا القول إن بداية جيدة قد تحققت لإطلاق هذا الجهد. فقد صادق مجلس الأمن الدولي على نشر قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات، قوامها 26 ألف جندي، على أن تدار إدارة مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. وقد ساعدتني تلك الزيارة للإقليم على رؤية الصعوبات التي ستواجهها قواتنا هناك، كما رأيت أن عملياتنا اللوجستية قد بدأت فعلياً هناك. على أنه يلزم القول ابتداءً إنه ما من قوة لحفظ السلام قادرة على تحقيق أي نجاح لمهمتها هذه ما لم يكن هناك سلام يجب الحفاظ عليه. وهذا ما يلزمنا بالدفع حثيثاً في اتجاه التسوية السياسية السلمية للنزاع في المقام الأول. وذلك هو الدافع الرئيسي لزيارتي للإقليم. ومن جانبها جددت حكومة عمر البشير التزامها -الذي سيخضع للاختبار العملي- بدعم مهمة حفظ السلام هذه، مصحوباً بدعمها لمحادثات السلام الشامل أيضاً. وجرى الاتفاق على أن تبدأ المحادثات هذه في ليبيا في السابع والعشرين من شهر أكتوبر القادم، تحت القيادة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. كما التزمت حكومة البشير بالوقف الفوري للاعتداءات، وهو ما فعله المتمردون في الشهر الماضي في أروشا. لكن وعلى أية حال، فلم تمض على زيارتي سوى بضع ساعات فحسب، حتى تواترت التقارير عن وقوع انفجارات وتوترات واشتباكات في ضاحية "حسكنيتة" بشمالي دارفور. ولذا فإن من الأهمية بمكان أن يلتزم الطرفان -التمرد والحكومة- بتوفير الأجواء الملائمة للمحادثات المرتقبة. كما أنه يلزمنا إبرام عقد اجتماعي للسلام في الإقليم، وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا بالمشاركة الواسعة لزعماء القبائل وممثلي الحركات السياسية المستقلة، ولرأي النساء ومجموعات النازحين، فضلاً عن المسؤولين المحللين والمركزيين على حد سواء. كما لا ينبغي لأنظارنا أن تنصرف عن اتفاقية السلام المبرمة من قبل بين الحكومة المركزية وقوات التمرد، وهي الاتفاقية التي وضعت حداً لحرب أهلية طويلة الأمد قبل عامين. ولدى لقائي بالرئيس الليبي العقيد معمر القذافي، أبدى مبادرة طيبة وترحيباً باستقباله للمحادثات هذه، مقترنة بوعد منه بأن يبذل أقصى ما يستطيع حتى تكلل هذه المحادثات بالنجاح. وقال لي في هذا المعنى: "فإما النجاح اليوم أو كفى". وفي ذلك تأكيد لقناعته الشخصية بأن تكون هذه المحادثات فاصلة ونهائية. وأثناء زيارتي إلى ليبيا رأيت النهر الصناعي العظيم، وهو عبارة عن خط أنابيب مياه تمتد لمئات الأميال وتحمل الملايين من جالونات المياه العذبة المستخرجة من باطن التربة الصحراوية. وفي منطقة يسودها القحط والجفاف إلى هذا الحد، فلا شك أن هذه فكرة عظيمة، خاصة بعد أن طرت فوق بحيرة تشاد التي تضاءلت مساحتها إلى العشر. وقد أكد لي الرئيس التشادي إدريس ديبي أنه من المستحيل تحقيق أي تنمية اقتصادية اجتماعية في ظل النقص الحاد لموارد المياه في بلاده. ومن دون إحراز تقدم اقتصادي، فربما لن تتسنى لنحو ربع مليون لاجئ من اللاجئين الدارفوريين المقيمين في الجزء الشرقي من تشاد العودة إلى قراهم وديارهم مطلقاً. ومن رأيه أن الأمن والسلام يسيران جنباً إلى جنب ولا يمكن الفصل بينهما بأي حال. وفي هذا الجانب فإن للمجتمع الدولي دوراً بالغ الأهمية والحيوية ينبغي عليه القيام به. على أن كل هذا يؤكد ضرورة الأخذ بمنهج شامل لحل النزاع في الإقليم. كما أنه لا يمكن تجزئة الحل وتقسيمه. وكما نعلم فقد تعددت مصادر هذا النزاع في جوانبها الأمنية والسياسية والإنسانية، إلى جانب قضايا الموارد والتنمية. بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"