"علم الاجتماع الإسلامي"، "علم النفس الإسلامي"، "علم الاقتصاد الإسلامي"... مصطلحات برزت خلال العقود الأخيرة، وكان لها من يحاول نشرها والدفاع عنها والإسهام في تأسيسها، كما كان ثمة في المقابل من هاجمها أشد هجوم واعتبرها مجرد تركيب لفظي يضيف كلمة "إسلامي" إلى علوم غربية قائمة بذاتها نظرياً ومنهجياً، أو أنها في أحسن الأحوال اسم بلا مسمى أو حتى "موضة زائفة"! لكن الكتاب الذي نعرضه في الأسطر التالية، وهو "عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية، رؤية إسلامية مقارنة"، لمؤلفه الدكتور أحمد إبراهيم منصور، يحاول أن يقدم نقداً تجاوزياً للفكر الاقتصادي الغربي برمته، معتبراً أن النظرية الاقتصادية الوضعية اهتمت بالجوانب المادية للفعالية الاقتصادية، ولم تعر الاهتمام الكافي لجوانب عدالة التوزيع، لذلك عانت هذه النظرية من إخفاقات منهجية وأخلاقية. ويشرح الكتاب كيف أن المسلمات الأساسية للنظرية الاقتصادية الوضعية، صيغت بموجب رؤية غربية، ومثلت انعكاساً لفلسفة القانون الطبيعي وتطوراتها اللاحقة. وتوسيعاً لذلك النقد نحو مديات أبعد، يكرس المؤلف خمسة فصول من كتابه لبيان أوجه القصور في السياسات والأسس النظرية للاقتصاد الوضعي؛ فينتقد مدارسه وتياراته المختلفة؛ كالمذهب التجاري، والمذهب الطبيعي، والمدرسة الكلاسيكية، ونموذج التناقض والصراع، ونظرية التوازن العام. ويخلص من عرضه النقدي المسهب، إلى أن النظرية الاقتصادية الوضعية غير قادرة على إيجاد التوازن بين السعي نحو التراكم المفضي إلى النمو، والتوزيع العادل للدخل، والثروة، وإعادة التوزيع المفضية إلى الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية... أو بمعنى آخر "ليس هناك من توافق بين التوزيع بوصفه وظيفة اقتصادية اجتماعية، والعدالة بوصفها مفهوماً سلوكياً قيمياً". أما "البديل الموضوعي" لتلك النظريات، كما يقول المؤلف في الفصول الأربعة الأخيرة من كتابه، فهو ذلك الذي يوازن التطلعات المادية مع الالتزامات الروحية، أي "الاقتصاد الإسلامي" من حيث هو منهج في التعاطي مع الفعالية الاقتصادية ككل لا يتجزأ، مما يجعل منه بديلاً ملائماً يعالج الخلل الذي شاب النظرية الاقتصادية التقليدية، والذي نشأ عن التراكم الرأسمالي الفائق وغياب العدالة. ويقوم الاقتصاد الإسلامي على تحكيم الشريعة الإسلامية في مجمل فعاليات الحياة الاقتصادية، وعلى النظر إلى محاور أساسية كالعدالة، والتوزيع، والكفاءة، والنمو، باعتبارها عناصر تتكامل ضمن نشاط إنساني هادف، يؤدي إلى إعمار العالم وسعادة الإنسان مادياً وروحياً. وكما يقول المؤلف، فإن النظرية الاقتصادية الإسلامية لا تعالج المشكلة الاقتصادية استناداً إلى الفرضية التقليدية حول مسألتي الندرة والاختيار، وإنما تعالجها بالأساس مستهدفة تفادي سوء توزيع الموارد، وكذلك سوء الاستخدام والاختيار؛ فالعدالة واجبة في العلاقة بين فعالية الإنتاج وفعالية التوزيع. ويضع الاقتصاد الإسلامي مسألة التوزيع في مواجهة مسألة الإنتاج، أي أنه اقتصاد إنتاج واقتصاد توزيع معاً. أما إعادة التوزيع فتتوزع وسائلها على مساحة واسعة، بين ما هو فرض وسنة وندب، أي ما يطلق عليه "التكاليف المالية الشرعية". وفي كل ذلك يؤكد المؤلف أن الاقتصاد الإسلامي يضع العامل الاجتماعي على رأس أولوياته، إذ تدور جميع مسلماته حول الحاجات الأساسية، ودخل الكفاية، والتوزيع وإعادة التوزيع، وتنمية النمو وكفاءة الموارد. وإذا كانت عدالة توزيع الدخول في الاقتصاد الإسلامي، ترتبط بمفهوم العدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص والضمان الاجتماعي، فإن تكافؤ الفرص في المنظور الإسلامي يتضمن التمكين والقسمة؛ أي التمكين للجميع في العيش، والقسمة بحسب قدرة البشر وسعيهم في الحياة الدنيا. أما الضمان الاجتماعي فأمره منوط بولي الأمر (الدولة) نحو المواطنين (الرعية)، وذلك بتقديم المساعدة في الحالات الموجبة كالمرض أو العجز أو الشيخوخة. كذلك يولد العدل مفهوماً آخر هو الاعتدال في سائر المناشط الاقتصادية، بدءاً بالإنفاق من الدخول المتحصلة، أي الحد من الإنفاق الاستهلاكي لصالح الإنفاق الاستثماري. والدوافع الاستثمارية في البيئة الاقتصادية الإسلامية، تشمل الربح كمحفز على الاستمرار في الاستثمار، وتوفير فرص العمل (كمصدر لتنشيط الطلب الاستهلاكي)، وحماية الأموال من الاكتناز والتآكل... علاوة على الثواب الأخروي. ويتطرق المؤلف لموضوع آخر لا يقل أهمية، ألا وهو كفاءة الموارد في الاقتصاد الإسلامي، حيث يوضح أنها تقترن بالإتقان، وأن الإتقان يفضي إلى العمل الماهر، وهذا يفضي إلى البيئة الأخلاقية التي تحكمها الشريعة الإسلامية في تحديد كفاءة المورد الاقتصادي وتنظيم تخصيصه وفق مفاهيم الوسطية والاعتدال. وبناءً على ذلك تتداخل البيئة التكنولوجية والبيئة الأخلاقية للتتكامل مع البيئة الشاملة لجسد الاقتصاد الإسلامي. وبشكل عام فكفاءة المورد الاقتصادي تتحدد في فضاء عنصرين أساسيين، هما العمل ورأس المال. مع العلم أن أجر العمل يجب أن يرتقي إلى دخل الكفاية، وأن عنصر رأس المال في الاقتصاد الإسلامي لا يكافأ بالفائدة بل بالمشاركة في الأرباح مع تحمل المخاطر. وأخيراً يناقش الكتاب مناهج الإسلام في التنمية الاقتصادية، موضحاً أن الباري عز وجل سخر للإنسان كل الموارد، لكن هذا التسخير مشروط بعمل الإنسان على تطويع تلك الموارد وفقاً لمقاصد الشريعة، وبالتالي فالمنهج الإسلامي في تحقيق التنمية، هو أقرب شيء إلى منهج "التنمية المستدامة"، إذ تقتضي عملية التراكم الاقتصادي، وفق الشريعة الإسلامية، التزام القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار" في تحقيق معدلات نمو اقتصادي متوازن بين حاجات المجتمع من جهة وحماية الموارد والحفاظ على البيئة من جهة أخرى. محمد ولد المنى ــــــــــــــــــــــ الكتاب: عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية، رؤية إسلامية مقارنة المؤلف: د. أحمد إبراهيم منصور الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية تاريخ النشر: 2007