تحل بعد أيام قليلة الذكرى السادسة لأحداث سبتمبر 2001، والتي كانت لها تأثيرات (أغلبها كارثية) على العالم، ومن ضمنه منطقتنا العربية. ومثلما تفرض الأحداث الجسام تحولاتٍ تاريخيةً على الأمم، فرضت على مسؤولي العالمين العربي والإسلامي قبول كثير من غير المستساغ! فلقد أصبح ذلك اليوم الأسود النافذة الرئيسية التي تنظر من خلالها الولايات المتحدة لقضايا العالم على نحو أكثر انغلاقاً وتعصباً من ذي قبل. ومما يجدر تذكره أنه عندما وصل الرئيس بوش إلى البيت الأبيض، كان همه ممارسة سياسة معاكسة لسياسة سلفه بيل كلينتون، فقد اعتبر أن كل ما عمله كلينتون في محاولاته المتكررة لحل النزاع العربي- الإسرائيلي، كان خاطئاً وخاصة بعد الموقف التاريخي للرئيس الراحل عرفات ورفضه التوقيع على إملاءات مفاوضات "كامب ديفيد- 2". كما أن بوش لم يكن يهتم بالسياسة الخارجية، ولم يكن خبيراً في قضاياها. أما القضية الفلسطينية فلم تكن تشغل باله، وبالذات بعد تقلص احتمالات السلام إثر انهيار مفاوضات "كامب ديفيد -2" واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، واختيار أرييل شارون رئيساً لحكومة إسرائيل وهو الرافض لتقديم أي تنازلات في سبيل الحل السلمي المطلوب. وقد تجلى الموقف الأميركي قبل أحداث سبتمبر، وتحديداً في يناير 2001، حين أعلنت كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي آنذاك والمقربة من الرئيس بوش، أن "أزمة الشرق الأوسط تحتاج إلى معجزة، وأن رؤساء أميركيين سابقين اقتربوا من الأزمة ولم يأخذوا منها إلا حرق أصابعهم، وأن بوش الابن لا يعتبر نفسه صانع معجزات يحوّل قطعة الحجر إلى رغيف، كذلك فهو لا يريد أن يحرق أصابعه"! غير أن أحداث سبتمبر وفّرت فرصة لليمين الحاكم لتنفيذ سياسة دعم إسرائيل دون حدود على حساب علاقة الولايات المتحدة مع الشعب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية التي مثلت، بعد توقيع اتفاقية أوسلو، جزءاً من التحالف الأميركي في المنطقة. ومع وقوع تلك الأحداث، بدأ الرئيس بوش يركز على السياسة الخارجية، وأصبحت قضية "الإرهاب الدولي" هي قضيته الأولى وشغله الشاغل والعامل الرئيسي في تحديد سياسته الخارجية. لقد سجلت أحداث سبتمبر ذروة التصاعد الدراماتيكي للإرهاب على المستوى الدولي من زاوية تأثيرها في العلاقات الدولية، فشكلت نقطة تحول بعد أن نجحت الولايات المتحدة في استغلال الحدث لتوسع آثاره ونتائجه بحيث شمل كافة المنظومة الدولية عندما تم الإعلان صراحة بأن رد الفعل من الحكومات والدول على الحدث ليس مقبولاً اقتصاره على بيانات الشجب والاستنكار، بل إن من "واجب" الدول تحديدَ موقفها: هل هي مع الإرهاب أم ضده؟! وهل هي مع محور الشر أم مع محور الخير؟! عندها بدأ الاستغلال السياسي الواسع لظاهرة الإرهاب الدولي، فرسخت الإدارة الأميركية أسس سياستها الجديدة متمثلة في استخدام القوة في العلاقات الدولية و"شرعية" تدخلها في شؤون الدول الأخرى وتهميش دور الأمم المتحدة. وعلى الصعيد العربي، تمت محاولة تطبيق استراتيجية جديدة تمثلت في ترسيخ مبدأ التبعية بفعل الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية الممارسة أميركياً. أما على صعيد القضية الفلسطينية، فقد جاء سبتمبر كارثياً حين تم تشويه النضال الفلسطيني وأهدافه المتمثلة بالاستقلال وتقرير المصير، ووصف مقاومة الشعب بـ"الإرهاب"، حيث بدأت الإدارة الأميركية ترى في الانتفاضة والحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني جزءاً لا يتجزأ من حربها ضد الإرهاب، مدفوعة بذلك من قبل إسرائيل التي رأت في هذه الأحداث فرصة لها لتشويه النضال الفلسطيني، فقدمت لها دعماً أعمى وغير محدود، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الاقتصادي. ودون تردد، استغلت إسرائيل أحداث سبتمبر مباشرة. ونحن نذكر أنه بعد أيام قليلة من هجوم 11 سبتمبر، اقتحمت الدبابات الإسرائيلية المدن الفلسطينية وقتلت العشرات وأحكمت قبضتها على السكان، وسارعت وقتها الولايات المتحدة وقدمت للدولة الصهيونية شحناتٍ عسكريةً جديدةً تمثلت في طائرات هليكوبتر حديثة استخدمتها إسرائيل في اغتيال عديد القيادات الفلسطينية لاحقاً. أما على الصعيد السياسي فتمثل الدعم الأميركي في استخدام الفيتو ضد كثير من مشاريع القرارات التي تدين إسرائيل على جرائمها المرتكبة ضد فلسطين وشعبها، على رأسها الفيتو ضد خطة "ميتشل" وضد إرسال مراقبين دوليين للإشراف على الحد من "العنف"، وكذلك ضد اقتراح أكبر مسؤول لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهو حينها "ماري روبنسون"، الداعي لإرسال فريق لتقصي الحقائق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل إن بوش نفسه كان يصف كل تصرف لشارون بأنه يؤدي إلى السلام، فيما كانت المحاكم الجنائية في القارة الأوروبية تحاكمه لارتكابه جرائم حرب ضد الفلسطينيين. لقد وضعت السياسة الأميركية، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، الشعب الفلسطيني وقيادته في مواجهة حالة لا يحسد عليها، إذ تغيرت أولويات معالجة القضية الفلسطينية من الحاجة لدعم مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (المتمثل في إنهاء الاحتلال والاستمرار في دعم الاستقلال الوطني للشعب الفلسطيني وصولاً إلى إقامة دولته المستقلة) إلى ربط هذا الدعم والتأييد باستحقاقات داخلية فلسطينية. وكان في طليعة تلك الاستحقاقات المطالبة بما أسموه الإصلاح الداخلي ومكافحة الإرهاب، وذلك للتهرب من تزايد المطالبة بإنهاء الاحتلال وتأكيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، مع أيدٍ خفية عملت على تصعيد حدة التوتر في الداخل الفلسطيني حتى حصل الطلاق البائن بينونة صغرى حتى اللحظة بين القوى المسيطرة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. فالسياسة الأميركية لم تتلاق مع المبادرة الفلسطينية بحكومة الوحدة، أو اتفاق مكة، ولا حتى مع المبادرة العربية للسلام. وهكذا باتت الولايات المتحدة تلعب وحيدة في تطبيق نظرية الفوضى "الخلاقة". كما تحولت القضية الفلسطينية من قضية شعب يسعى وراء حقوقه السليبة إلى جزء من الحرب الأميركية على الإرهاب، فأبعدت القضية الفلسطينية عن الشرعية الدولية، فيما تابعت إسرائيل استكمال سياستها العدوانية والتوسعية الاستعمارية (الاستيطانية) بحيث لا يبقى للفلسطيني إلا شبح الدولة! والحال كذلك، ورغم "مؤتمر الخريف" الذي دعا إليه الرئيس بوش وأثار كثيراً أو قليلاً من التفاؤل في بعض الأوساط، أوليس من باب الواقعية السياسية الافتراض بأن المسعى الإسرائيلي/ الصهيوني (المؤيد حتى تاريخه تأييداً مطلقاً من قبل الإدارة الأميركية الراهنة) هو مسعى يستهدف (من خلال الممارسات الإسرائيلية المستمرة و"مؤتمر الخريف") جعل الذكرى السادسة لأحداث سبتمبر مناسبة لتكريس تحليق النجمة السداسية اليهودية، علناً، في السماء العربية؟!