انتهت عطلة شهر أغسطس المعتادة في فرنسا وسط تساؤلات المصطافين الذين قضوا عطلتهم داخل البلد حول ما إن كانوا يعانون "جرعة مفرطة" من أخبار أنشطة رئيسهم الجديد كثير الحركة نيكولا ساركوزي. إذ يرى بعض أصدقائه، وكذلك منتقدوه، أنه ربما كان يجدر به أن يرتاح قليلاً، بدلاً من تناول الغداء مع آل بوش في ولاية "مين" الأميركية، ويبقى في فرنسا مع أخذ جرعة من عقار "ريتالين". والحال أن استطلاعات الرأي تفيد بأنه أنهى الصيف بمعدل شعبية أعلى من معدل شعبية أي رئيس فرنسي سابق منذ شارل ديغول في 1960- 1961، على أن أكبر نسبة تأييد سُجلت هي تلك التي يحظى بها في أوساط العمال (76 في المئة مقابل 71 في المئة كمعدل تأييد عام). بيد أن ثلاثة أرباع الأشخاص الذين منحوا ساركوزي هذه المعدلات العالية يعترفون في الوقت نفسه بعنصر الديماغوجيا في سيل الإصلاحات التي يقترحها، وفي مشاعر الحزن والمواساة التي يبديها مع ضحايا الجرائم والكوارث، وكذلك في زياراته إلى الخارج والأقاليم، ونصائحه للمؤسسات الدولية والحكومات الأجنبية بخصوص طريقة التصرف. ويبدو في كل ذلك مختلفاً عن حالة السبات والركود التي ميزت السنوات الأخيرة من فترة جاك شيراك الرئاسية. ولعل إنجاز ساركوزي اللافت وغير المتوقع هو تقويضه السريع والمفاجئ لمد الحزب الاشتراكي الفرنسي؛ وقد ساعده في ذلك، بطبيعة الحال، ترشح سيغولين رويال للانتخابات الرئاسية، وهي التي كانت قد هزمت أو همّشت كل شخصيات الحزب القوية حيث كانت تتوقع أن تسوِّي تلك الشخصيات المعروفة بـ"فيلة" الحزب مسألة الترشح الرئاسي فيما بينها. ذلك أن رويال قسَّمت الحزب بين أنصار لها يرغبون في الانتقال إلى "الوسط"، وجناح إيديولوجي مازال يسعى إلى التحالف مع "اليسار" الراديكالي، فكانت الخسارة المحتومة في الانتخابات. وقد أغار ساركوزي على أنقاض الاشتراكيين، عارضاً مناصب في حكومته وتعيينات في لجان الإصلاح على اشتراكيين شباب طموحين يبدو أنهم يبتغون النجاح، إضافة إلى اشتراكيين مرموقين نفد صبرهم مثل جاك لانغ (وزير الثقافة في عهد الرئيس فرانسوا ميتران)، وميشال روكار (رئيس الوزراء السابق والطامح السابق إلى زعامة الحزب الاشتراكي)، و"الفرنش دوكتور" برنار كوشنر، وزير خارجية ساركوزي حالياً. وإضافة إلى ذلك، اقترح ساركوزي أيضاً دومينيك ستروس- كان، الذي يعد واحداً من أكثر "الفيلة" الاشتراكيين الصامدين احتراماً وتقديراً، مرشحاً فرنسياً لرئاسة "صندوق النقد الدولي" -وهو ما من شأنه أن يشغله ويبعده عن السياسة الداخلية في فرنسا. وقد عقد الاشتراكيون اجتماعهم السنوي الذي يلتئم نهاية الصيف يوم الجمعة الماضي، وسط غياب ملحوظ لكل زعماء الحزب السابقين تقريباً لسبب أو لآخر، على أن السبب الرئيسي هو سقوط الحزب بين أيدي جيل شاب. ومع ذلك، فإن سيغولين رويال مازالت الأوفر حظاً في أوساط الإصلاحيين الوسطيين (وإذا كانت المرشحة الرئاسية السابقة ممتنعة في الوقت الحالي عن التنافس على زعامة الحزب، فإن شريكها السابق ووالد أبنائها يشغل هذا المنصب، ولكن ليس لوقت طويل من دون شك). إلى ذلك، يعد عمدة باريس، بيرتران ديلانو، وهو أحد منتقدي رويال، الشخصية الجذابة الجديدة في الحزب، وذلك بفضل "شاطئ باريس" (الشاطئ الذي يقام على نهر السين في فصل الصيف)؛ والإصلاحات المتعلقة بحركة المرور، وأسطوله الجديد من الدراجات الهوائية المخصصة للإعارة، وذلك ضمن الجهود الرامية لحل مشكلة الاختناقات المرورية في باريس، مع نحو 300 محطة عبر المدينة -وهو ما شكل نجاحاً كبيراً في مجمله. والواقع أن معظم الزعماء الاشتراكيين الأكبر سناً، الذين كانوا قد تنافسوا على الترشح الرئاسي، يعرفون أنهم في طريقهم إلى مقبرة "الفيلة"؛ ذلك أنه لن يكون لديهم فضاء كبير في السياسة الفرنسية خلال السنوات الخمس المقبلة في حال تصرفَ ساركوزي بطريقته. غير أن ثمة خطراً حقيقياً يحدِق به بسبب ديناميته وطموحه وغروره وتسرعه -وكلها أمور يعرض لها باستفاضة كِتابٌ حقق رقماً قياسياً من المبيعات في فرنسا حول سعيه إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية، وهو من تأليف الكاتبة المسرحية المعروفة ياسمينة رضا، التي سُمح لها بأن تتبع ساركوزي خلال عام كامل، وهو ما يعد في حد ذاته قراراً متسرعاً من جانبه. والحق أن الصورة التي ترسمها عن ساركوزي في هذا الكتاب ليست كلها مديحاً وإطراءً (وهو كتاب يقول ساركوزي إنه لم يقرأه بعد). الخطر في هذا الحضور الكثير يكمن في حقيقة أنه يحمل بين ثناياه محاسبة كاملة وشاملة عن كل الإحباطات والأخطاء. ثم إن أحد الأخطار التي تحدق بساركوزي لها صلة بالدستور؛ ذلك أنه عمد إلى تقليص دور رئيس الوزراء واختزاله في دور مساعد تنفيذي. وبالنتيجة، فقلما شوهد رئيس الوزراء فرانسوا فييون، الذي يعد رئيس الحكومة من وجهة النظر القانونية، منذ تنصيبه. قد يندم ساركوزي على ذلك مستقبَلاً، على اعتبار أن إحدى وظائف رئيس الوزراء الدستورية الثابتة في الجمهورية الخامسة هي تحمل المسؤولية؛ إذ عليه يقع اللوم عندما ينفد صبر الجمهور ويضيق ذرعاً بالحكومة، أو عندما يغضب بسبب إخفاقاتها. والواقع أن التدخل الرئاسي لتغيير الحكومات وتعيين رئيس وزراء جديد يمنح الرئيس إمكانية الفشل والعودة من جديد. ذلك أن رئيس الوزراء بمثابة الصمام الكهربائي الذي ينفجر، فتتم إزاحته عندما تحدث الأخطاء، آخذاً اللوم معاً. ليُعين الرئيسُ بعد ذلك رجلاً (أو امرأة) جديداً لتقديم وعود جديدة. غير أن ساركوزي يعتقد ربما أنه لن يضطر للقيام بذلك أبداً. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسس"