"...لابد من تأريخ موضوعي لمراحل الزمن الصعب وتسجيل أحداثه وكلماته التي تعطي فكرة واضحة: كيف تعامل وتقاتل الأعداء؟ كيف تعامل وتقاتل الحلفاء والأصدقاء؟ كيف انقلبت التحالفات إلى عداوات، والعداوات إلى تحالفات وصداقات؟ كيف كانت الحرب بين مشروعين: (وطني) و(انعزالي)، وكيف تقاتل (الوطنيون) مع بعضهم و(الانعزاليون) مع بعضهم؟ ثم كيف انفتح بعض (الوطنيين) على بعض (الانعزاليين)؟ كيف سقطت المقاييس والمعايير أو اختلطت أو التبست، ولم تعد تعرف معها من هو (الوطني) ومن هو (الانعزالي)؟ كيف تقاتلت الطوائف؟ وكيف تقاتلت مذاهب الطوائف؟ كيف أقفلت الطرقات والمعابر في وجه الآمنين وفتحت أمام المهجرين؟ كيف انقسم المواطنون على مصالحهم وتوحد المهرّبون حول مصالحهم؟ وبعد حلول السلام، كيف أصبحت القضية أكبر والهم والاهتمام أصغر؟..." "...في زمن التحولات الكبيرة على الساحتين الدولية والإقليمية، تتحدد من جديد أدوار دول وشعوب وأمم. ولا شك أن مستقبل لبنان ودوره لم يتحددا بعدُ بالرغم من اتفاق الطائف، بل ينتظران فعلياً نتائج مفاوضات السلام الجارية في المنطقة. وبالتأكيد فإن لبنان ما قبل الـ 75 لن يعود. ولذلك، فإن الزمن الآتي صعب أيضاً، وربما أصعب من الذي مرّ ولو تغيرت وجوه الصعوبة، فهل نستفيد من تجارب وكلمات ذلك الزمن ونقرأ جيداً في كتاب واحد لنتقي مخاطر المستقبل ورياحه العاصفة؟ هل نتحول إلى شعب أم نظل جمهوراً تتوزع فرقه مواقعها في المناطق لتردد هتافات بالفداء بالروح والدم لأشخاص؟ هل يدرك القادة أن الذي لا يقرأ ولا يراجع نفسَه وحساباتِه ومواقفَه لا يستطيع أن يحكم ويقرر ويستمر؟ وهل ندرك أن الدولة التي لا تربح شعبها ليست دولة؟ وأن الشعب الذي لا يربح دولته يبقى مصيره في مهب الريح؟ فكيف إذا خسرت الدولة شعبها، وإذا خسر الشعب دولته وقضيته؟ وهل ندرك أن من يعرف كيف يربح شاطر، وأن من يعرف كيف يخسر أشطر، وأكبر الخسائر ألا نربح دولتنا وأن نخسر أنفسنا وأن نستسلم لاحتمال أن تكون الحرب الأخيرة قد أقفلت على حروب؟ "إذا كان ما نشهده اليوم هدفه منعنا من الحلم فلا شيء يمنعنا من التحدي. إنها أولى كلمات الزمن الصعب الجديد. فليكن التحدي واحداً". هذه فقرات من مقدمة كتاب "كلمات الزمن الصعب" الذي أصدرته عام 1992، وهو مكون من أربعة أجزاء تضم مجموعة من التعليقات السياسية التي أذعتها من إذاعة "صوت الجبل" على مدى عشر سنوات 1984- 1994، وفي أصعب ظروف الحرب، ولم أغيِّر في النصوص شيئاً لأنها تؤرخ لمرحلة خطيرة من تاريخنا، لكن المقدمة جاءت لتشكل مراجعة لتلك المرحلة وحرصت فيها أن أعبر عن تجربتي وعن رؤيتي للأمور، بعد الحرب. لا أريد هنا أن أضيف الكثير. لكنني أعترف، وبألم كبير، بأن ما حملته كلمات تلك المقدمة كانت مقدمة فعلية لما نحن عليه اليوم في ظل الحديث عن التصادم والتقاتل، والفوضى والانقسام والخلاف وتقلّب المواقف والتحالفات، وعدم وجود رؤيا واضحة، والخشية من حروب كما يروج البعض، والخوف من خسارة القضية بسبب سوء التقدير والتصرف بما أنجزناه على هذا المستوى في مواجهة الإرهاب الإسرائيلي، ومن خسارة الدولة لشعبها بسبب التفكك والعبث بالمؤسسات والابتعاد عنها والخلاف السياسي الحاد القائم، وخسارة الشعب لدولته بسبب محاولات ضرب مؤسساتها، وإضعافها لمصلحة مؤسسات قوى باتت تملك في بعض المجالات مؤسسات أقوى من مؤسسات الدولة مما عزز ارتباط الناس بها أكثر من ارتباطهم بالدولة، وجيّش هؤلاء الناس ضد الدولة ومؤسساتها في سياق المشروع السياسي الذي بنيت عليه عملية إفراغ المؤسسات وإقامة مؤسسات رديفة... نحن اليوم نواجه أخطاراً كبيرة. لسنا موحدين. من يعتقد أنه ربحَ وحده يفرط في ربحه فينطبق عليه القول إنه لم يعرف بالنتيجة كيف يربح. والخائف من خسارة يهرب الى الأمام في خياراته وقراراته وعناده فلا يعرف كيف يربح وكيف يحافظ على ربح إذا ربح وكيف يخسر إذا كان معرضاً للخسارة. وليس ثمة جامع في مفهوم الربح والخسارة. ولبنان في مهب الريح ونحن أمام استحقاق جديد ومهم هو انتخابات رئاسة الجمهورية. وهو التحدي الأكبر أمامنا اليوم. فهل لنا أن ننقذ البلاد والناس والمؤسسات ونتعلم من دروس وتجارب الماضي ومخاطر تعطيل انتخابات الرئاسة التي كان بديلها الفوضى، والتمرد، والعنف، والانقسام، والخسائر؟ ومن المفترض أن نتعلم لأننا أخذنا هذه النتائج في الحساب نظرياً في اتفاق الطائف، وبات التعاطي مع الخيارات والاحتمالات محدداً في الدستور لا يحتاج إلى اجتهادات تارة نتحدث عن نص الدستور وطوراً نلجأ الى روحه لنحتمي بها، وكأن بعضنا بات يلعب لعبة استحضار أرواح للقضاء على روح الكيان فعلياً وعلى المؤسسات والدستور، والحياة السياسية في البلاد. إن المصلحة الوطنية تقضي باحترام المواعيد الدستورية لانتخابات الرئاسة، والالتزام بإجرائها والذهاب إلى المجلس النيابي لممارسة هذه المسؤولية، لننتخب رئيساً جديداً ويتم بعد ذلك تشكيل حكومة جديدة قائمة على بيان وزاري جديد يتفق عليه ويشكل قاعدة عملها السياسي وأساس توجهاتها في التعاطي مع القضايا الرئيسية، تنطلق في عملها ويكون من مهامها إقرار قانون جديد للانتخابات، تجري على أساسه الانتخابات في مواعيدها عام 2009، ولتكن نتائجها هي الفيصل. فتحدد المواقع وأحجامها في السلطة. أي خيار غير ذلك سيؤدي إلى مزيد من العنف والتراجع، وسيضيف إلى التجارب السابقة تجربة مماثلة ونتائج مماثلة ليست في مصلحة أحد إذا ما راجعنا تلك التجارب.