يحتاج الإنسان المشغول دائماً إلى فترة من الراحة والاستجمام كي يجدد نشاطه، وفي نفس الوقت يقضي وقتاً أطول مع أهله وأولاده الذين ظلمتهم المدنية الحديثة بزحمة جدول الوالد واضطراره للعمل ساعات خارج المنزل، وهذا ما يجري في حياة الكثير منا اليوم. وكان من سعادتي أن قضيت جزءاً من وقتي في كندا مع الأسرة في إجازة أحسب أنها كانت موفقة ولله الحمد والمنة. والكاتب منا أينما رحل يشغل عموده الذي يكتبه حيزاً من تفكيره، والذي يشارك أو يزعج بعض القراء الكرام تجارب خاصة قد تكون مفيدة، وربما هي ورقه تمر عليكم سريعاً لكنها كانت في ذهني خلال الإجازة وودت أن أشارككم إياها. مع جمال الطبيعة في كندا إلا أن لها جمالاً خاصاً يتمثل في حسن تعامل الناس فيها معك، وهو ما يهم الإنسان وبالذات إذا سافر مع أسرته، وهي دولة لايحس العربي فيها بغربة لكثرة العرب المهاجرين لها، ولا يبتعد المسلم كثيراً فيها عن ممارسة شعائره الدينية لانتشار المساجد وكثرة المسلمين الذين يسلمون عليك عندما يعرفونك، ومن هذه اللقاءات مع العرب والمسلمين هناك كانت لي معكم هذه الوقفات. من باب الدعابة الذكية سألت صاحب البقالة المقابلة لمقر إقامتي، وهو عربي، عن سر بقائه في هذا البلد رغم أن الحكومة الكندية تأخذ منه تقريباً ثلث ماله سنوياً على شكل ضرائب، فقال ضاحكاً أنا مستعد أن أقدم لها نصف مالي في مقابل الخدمات التعليمية التي ينالها أولادي مجاناً والرعاية الصحية العالمية المجانية التي ألقاها وأسرتي، يقول بكل أسف في العالم العربي هناك حكومات تأخذ منك كل شيء بما فيه حريتك ولاتعطيك في المقابل أمراً، بل تتوقع منك السكوت والرضا بل والثناء المستمر للخدمات المقدمة، وهي لا تُقارن بشيء إذا قسناها بما نلقاه في هذا البلد، وبعد ذلك تسألني أيها العربي لِمَ هاجرت إلى هذا البلد؟ فقلت له لكن ليس كل الحكومات العربية على ما وصفت، فقال ربما معك حق، ولكن من يسمح لنا من العرب بالهجرة لدولهم. وهنا توقفت عن الحوار، وأخذت أغراضي من البقالة وهززت رأسي وانصرفت، وفي ذهني هذا السؤال أليست الدول العربية أولى بفتح نوع من أصناف الهجرة الدائمة وربما التجنيس لأصحاب العقول المهاجرة؟ في جلسة أتناول فيها القهوة الغربية جلس بجواري عربي كندي، ودار حديث شيق حول أسرار هجرة العرب إلى كندا، وكان مما ذكر حسن تعامل الحكومة الكندية أو النظام الكندي مع الناس، ففي هذا البلد الذي ضم أصولاً من كل الكرة الأرضية تقريباً تجد نظاماً دقيقاً لكل شيء وبالذات الضمان الاجتماعي، قال لي صاحبي، وهو عربي متخصص، وله عمل خاص هو راض عنه، في يوم من الأيام أردت وزوجتي اختبار الضمان الاجتماعي الكندي، فاتصلت بالمكتب المختص مساء وادعيت أنه لامال لي لتسيير أمور الأسرة، سألني من على الهاتف بعض الأسئلة ثم طلب الحديث مع زوجتي التي أكدت له ما قلت، فما كان منهم في اليوم التالي إلا أن صرفوا لنا مبلغاً من المال لتسيير أمور الأسرة، وحددوا لنا موعداً للمقابلة من أجل الوظيفة، فأخبرتهم بأني تمكنت من الحصول على مقابلة للعمل وشكرتهم على المال الذي اعتذرت عن الحصول عليه، ثم علق أين تجد مثل هذه المعاملة؟ والأطرف من هذا- يقول- أن زوجته خرجت يوماً لاستخدام المواصلات العامة فرأت في دربها عجوزاً قد سقطت، وهي في طريقها للحافلة، فما كان من الزوجة إلا أن ساعدتها على النهوض والصعود للحافلة، والنتيجة أن الشخص المسؤول عن المواصلات أعطاها ورقة لاستخدام المواصلات العامة مجاناً لسنة كاملة لما قامت به من عمل. ملخص القول إننا في العالم العربي نخسر كثيراً بعدم تأمين المتطلبات الأساسية للإنسان كي يبقى في وطنه.