بعد "قلة الأدب"، وربما قلة الوطنية الممارسة في حقل القضية الفلسطينية هذه الأيام، نتحول إلى ما قد يكون إبداعاً مختلفاً في حقل أدب قضية فلسطين. وفي هذا السياق، نتساءل: كيف يمكن للجيل الأسبق منا، وجيلنا، وكل من اقترب من جيلنا... كيف يمكن له أن لا يعرف "سلوى الجراح"؟ تلك السيدة الفلسطينية، المتشكلة في رحم مدينة عكا، الناشئة فيها، والمنزرعة في أحيائها: سكنى في سنوات التكوين، وذكرى في سنوات النضج المستمر. تلك الإعلامية البارزة التي، على مدى ثلاثين عاماً، تواصلت معنا وتربعت على قمم أثير "هيئة الإذاعة البريطانية" فوصلت إلينا دوماً على بساط ريحها؟ ومع ذلك، فنحن اليوم لسنا على موعد مع سلوى الجراح ولا مع برامجها المتميزة بقدر ما نحن على موعد مع "صخور الشاطئ"؛ روايتها الثانية التي يوم استلمتها منها تعاملت معها (الرواية) -اعترف- بخفة، مردداً بصمت: وهل كل من تقاعد من العمل الإعلامي (وغيره) يجب أن يجلدنا أو يصفعنا برواية؟ لاحقاً، لمت نفسي بعد أن اختطفتني الرواية ونقلتني من موقفي السابق إلى موقفي الراهن، بل إنني قمت بتقديم اعتذار طوعي عن "إساءة ذهنية" ارتكبتها دون أن تكون المستهدفة "بالإساءة" على معرفة بها، الأمر الذي جعلها تتفاجأ "بالإساءة" الخفية مثلما فوجئت بالاعتذار العلني! وإن أنا سجلت كل هذا، فليس "تشهيراً" مني بنفسي بقدر ما أردت الإشارة إلى "ظاهرة" بائسة لاحظتها في بعض أوساطنا، نحن معشر المثقفين! وفوراً أسارع إلى رحلتي مع "صخور الشاطئ" عبر ثلاث محطات أعبرها -فيما آمل- سريعاً. أولها أن الحبكة الروائية جاءت على مستوى توفرت فيه مقومات الرواية بحدود ما يستطيع غير مختص مثلي أن يشهد به. وحالة الاختطاف الآسر التي عشتها مع "صخور الشاطئ" والتحليق مع أحداثها، وكذلك الذوبان في صفحات الرواية على نحو متدفق رقراق، منعني من التوقف، بل حثني على المتابعة. وما حالة الاختطاف تلك سوى شهادة على "المغناطيس" الأدبي الجاذب الذي دمغ صفحات الرواية. وأصلاً، فإن الروايات -في ظني- لا تكتب للمتخصصين بقدر ما تكتب للجمهور العادي الذي أنتمي إليه. والروائية سلوى الجراح أحسنت صنعاً حين استفادت من حياتها وتجربتها الشخصية، سواء على صعيد الأسماء والأماكن والذكريات أو الاستخلاصات الحياتية، الأمر الذي جعل الرواية الإبداعية رواية واقعية في الوقت نفسه. وثانيها اعتقادي أن الرواية، وقد خلت من أي تسييس مباشر، نجحت في وضع الأحداث والشخوص في سياق تطورات قضية فلسطين ما قبل 1948. وهذا يشكل الميزة الثانية للرواية. فرغم دقة التسجيل المعلوماتي، فإن "تأريخ" القضية جاء سلساً مقتحماً الروح والوجدان والعقل دون أي افتعال! وفي ظني أن هذه ميزة لأي أدب هادف أو ملتزم، وأقصد مراعاة عدم المباشرة، المنفرة عادة والمقززة أحياناً! بل إنه مع محاولات محو ذاكرتنا الجمعية (بل والشخصية) بات مطلوباً أن نصل إلى الجيل (أو الأجيال) الجديد دون جلده بالحديث أو الخطابة أو التلقين السياسي الذي يسمع بأذن ثم يخرج من الأذن الثانية بسرعة البرق (كما التلقين المدرسي!). وفي هذا السياق، يُسجّل للروائية كونها استوعبت تاريخ وتطور القضية، ثم هي سجلتها بأمانة دون مؤثرات "أيديولوجية" أو مواقف ذاتية مسبقة، ثم ساقتها على نحو ينساب برقة فيستقر لدى المتلقي بشكل هادئ مريح لا ينجم عنه أي عسر ابتلاع أو سوء هضم! والجميل الجميل في كل هذا أن الروائية لا تتوقف عند تجربة "طبقتها"، وإنما تصل إلى رصد مواقف الطبقات الاجتماعية الأخرى على نحو موضوعي، مثلما أنها لا تقدم أي بطولة نضالية "دون كيشوتية"، بل هي تعرض للمواقف السياسية الرائجة في تلك المرحلة: متطرفها... ومعتدلها حتى بمن قيل (ويقال) عنها اليوم مواقف خيانية. إذن، الرومانسية الروائية كانت حاضرة مثلما أن رومانسية التاريخ لم تكن! وثالثها ميزة أخيرة قوامها أن سلوى الجراح لم تبخل على القارئ إذ هي أعطته ما يستحق عن صورة "المجتمع" وليس "التاريخ السياسي" فحسب! ومجدداً، هي فعلت ذلك من خلال أحداث وشخوص تنساب في الشرايين فتحمل "عافية" المعرفة دون "كولسترول" الجهل وقطعاً دون أي "تجلطات"! وفي هذا المقام، حسبي أن أشير إلى عرضها الموضوعي لواقع المرأة في تلك المرحلة: تخلفاً، أو افتياتاً على حقوقها، لكن دون إهمال ريادتها وتطورها المضطرد (في حينه) بما يجعل بعضنا يتحسر على تلك الأيام الخوالي! ثم هي، في سياق متمم، تعرض لصورة الأم باعتبارها صانعة قرار "مركزي"، "ووزيرة داخلية" رؤوم حنون (متمنين تطوراً يحمل فيروس الحنان ذاك إلى وزراء داخليتنا، أقلها في معظم الأقطار العربية)! وعن حزن بطل الرواية على أمه التي تركت (كما هو حال معظم أمهاتنا) أثراً إيجابياً كاسحاً على حياته، يقول "ياسين" "معاتباً" أخته "رقية": إن "كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا الحزن، يبدأ كبيراً ثم يصغر. كم هي مخطئة. لا، الحزن لا يصغر، الحزن يغوص عميقاً في النفس. الحزن مثل قطعة من الخشب تتقاذفها أمواج البحر، تظل أياماً طافية ثم تتشبع بالماء وتغطس عميقاً تحت الموج حتى ترقد في أعماق البحر وتنغرز في رمله". وفي حديثها عن الطبقات الاجتماعية، تسجل الروائية الوقائع كما هي دون تزويق أو تنميق. كذلك، لا ترتجف يد سلوى الجراح وهي تضع "مشرطها الجراحي" في عيوب المجتمع، مثلما أنها لا تخفي أسرار "المجتمع الشرقي" حيث الحب "الممنوح"، والجنس "المقموع"، والهواء "الممنوع"! ختاماً، أترك للقارئ استكشاف ما تتضمنه الرواية من وقائع مؤثرة حد الأسى والإبكاء، علاوة على ما تتضمنه من عبر وحكم مفيدة لكل من يريد التعامل مع الحب الحقيقي المطلق للطاقات، وليس الحب الكابح لأي عطاء مجتمعي. فكما خالد (شقيق ياسين بطل الرواية)، فإن "النصراوي" (نقولا) شخصية لافتة للنظر في نضالها وكفاحها ضد الصهيونية وقوات الاحتلال البريطاني. فهو حين يتحدث عن خطيبته "مي" المتفانية في عملها كممرضة في "حالات الهدوء والقتال"، يفصح عن عبرة بالغة لكل من تريد أن تعتبر: "مي خارج المعادلة. مي تقول لي افعل ما يسعدك. وتعرف أني إن تركت العمل هنا في حيفا وعدت للناصرة سأكون تعيساً أقضي يومي أنتظر نتيجة هذه الثورة التي طال شوقي لها"، ثم يضيف: "تعرف يا يونس الحب بكل أشكاله قيد. مي رغم حبي لها قيد لأني أخاف عليها من كل ما أفعل. إنها ذكية تترك مفاتيح قيدي في يدي أفكه وأغلقه متى شئت"! وبعد، هل ثمة حب أجمل من الحب الذي يطلق الطاقات ولا يكبح العطاء العام؟